الخميس، 4 يونيو 2009

في الثقافة والدين

في الثقافة والدين


الشروق- الخميس 28 مايو 2009 – الموافق لـ 03 جمادى الثانية 1430 هـ - ص 23

كتب الدكتور الزاوي في أقلام الخميس وفي زاويته "أقواس" – تحت عنوان:


في الثقافة والدين وما بينهما من غزل وشجن


خلاصة المقال: أسئلة في سياق مساءلة المؤسسات المعنية بتجسير العلاقة بين الديني والثقافي في الجزائر, إن المجتمعات العربية والإسلامية تعيش فوضى كبيرة في فهم العلاقة بين الثقافة والدين, وهي أساس المواطنة في ظل الديمقراطية، هذه العلاقة بين الثقافي والديني وبين الديني والسياسي, تسببت في سفك الدماء الغزيرة عبر تاريخ الشعوب, فهي علاقة متوترة وغامضة, والديني أقصد به كل الأديان السماوية وغير السماوية, فالحروب لأسباب دينية هي أغلب الحروب, وما حدث في الربع قرن الأخير, أكد الاهتمام بالدين بأشكاله المعرفية والثقافية والسياسية والشعبية. ويعتبر الكاتب أن "حل العلاقة" بين الدين والثقافة يؤدي إلى ذات النتيجة بين الدين والسياسة, في إشارة إلى الانفراج فيما يبدو, أو ربما التوافق والانسجام. والسبيل إلى هذا في المجتمع الجزائري هو إعادة النظر – كما قال – في المؤسسات الثقافية المشتركة بين عدة قطاعات أبرزها الثقافة والشؤون الدينية والشباب والرياضة. والعلاقات التي يجب أن تربط بين هذه المؤسسات، ويستشهد بمؤسسات" ثقافية تابعة لوزارة الشبيبة والرياضة لدى جيراننا تقوم بأهم المهرجانات المحلية والدولية في المسرح وفي الأدب والفكر". يرى الكاتب أن التحكم في العلاقة بين الثقافة والدين ينطلق من هذه المؤسسات, التي تنشط في شتى أرجاء البلاد. وعليه وجب إعادة النظر في القوانين التي تسير الثقافة في البلاد, ويركز على المراكز الثقافية الإسلامية, التي "وجب إعادة النظر في قانونها الأساسي وفي فلسفتها وفي إستراتيجيتها", لتستجيب لـ "ضرورة التغيير والتحسين والترهين لأننا ندرك كما يدرك الجميع ما للدين من دور خطير في المجتمعات". هذا الدور يكون سلبيا, بسبب استغلال سذاجة المواطن "حين تكون الثقافة العميقة غائبة", ثم يشيد باجتهادات الوزارة الوصية وشجاعة القائمين عليها في "مجالات اقتصادية واجتماعية وسياسية أثيرت حولها نقاشات كثيرة". وفي نظر الكاتب فإن المركز الثقافي الإسلامي له دوره الخاص المكمل لدور المسجد في "تكريس ثقافة الحوار والحرية والمعاصرة انطلاقا من متن ديني يتفرع في سؤاله ليلامس السؤال الفلسفي والسوسيولوجي والأدبي والجمالي". ويعترف الكاتب بوجود جهود متقطعة ولذلك فهي غير كافية, ولم يكن دور" الفضاءات الإسلامية" دائما متطرفا, عبر التاريخ, بل كان لها الحضور الروحي الفعال في المجالين الثقافي والفكري. إن فوضى الفتوى والاجتهاد والتأويل توجب إعادة النظر في تنظيم المؤسسات الدينية وأسسها الفكرية, بغية إخراج "الخطاب الثقافي في الدين وحوله من خطابات وعظية مستهلكة إلى خطابات ثقافية فكرية قادرة على مساءلة الجديد". ثم يتصدى الدكتور لوضع تصور لدور المراكز الثقافية عامة والإسلامية خاصة, وهو ضرورة تقديمها للخاصة والعامة " الجرأة الفكرية" التي كانت لدى المفكرين المسلمين عبر التاريخ, وأيضا لأولئك المفكرين غير المسلمين الذين عاشوا في المجتمعات الإسلامية, واعْتُبر إنتاجهم من الثقافة الإسلامية. لقد احتوت الثقافة الإسلامية ثقافات منتمية إلى ديانات أخرى "دون خوف على الدين أو على الله", ثم يتعرض الكاتب إلى جناية ضيق الأفق على الدين, وما ينتج عنه من انزلاقات تبلغ درجة الحروب والفتن, ولتجنب هذه المحن وجب رفع مستوى وزارة الشؤون الدينية إلى مرتبة "وزارة ذات سيادة", يقول: "وانطلاقا من تحليل سوسيو- سياسي, تحتل وزارة الشؤون الدينية والأوقاف موقعا أكثر إستراتيجية, في عالمنا المتخلف, من وزارة الدفاع والشؤون العسكرية", حيث إن الأولى هي التي تؤسس المواطنة ومفهوم الوطن, بينما الثانية تحرسه, وبقدر اهتمام الدولة بقطاع ما, تكون النتائج, وفي هذا السياق فالاهتمام بالقطاع الديني ثقافيا, تكون الدولة"قد حولت البلاد كلها إلى ثكنة من نوع خاص, ثكنة ثقافية وروحية عالية". ثم يلاحظ الدكتور وجود ضعف كبير في التحصيل الثقافي الروحي, باعتباره جزءا من الثقافة الإنسانية الشاملة. ومن هنا وجب على الفقيه استيعاب ثقافة العصر وعلومه وتكنولوجياته, وإلا كان تقليديا وخارج العصر"وبوضعه هذا لن يكون قادرا على محاورة مجتمع القرن والساعة". " لكل ساعة مثقفها والفقيه هو مثقف قبل كل شيء". ثم يذهب الكاتب إلى رفض أي وظيفة دينية يقوم بها شخص غير مثقف, ويستشهد برجال الدين في عهود الازدهار الإسلامي, "كان مجلسهم مجلس علم وأدب وسجال ونكتة وحكاية وتسلية وإفادة ونقاش وأخذ ورد, كانوا مركز الحضارة". وبهذا الصدد يقترح الدكتور الزاوي تحويل المراكز الثقافية الإسلامية إلى مراكز للفكر الإسلامي, لتكون أعمق وأشمل, وتكون مهمتها واضحة, وهي" تنظيم الملتقيات الكبرى في الدين والفلسفة وحوار الحضارات وحوار الأديان وشؤون الثقافي المرتبطة بالسؤال الديني؟".

هذا ما تفضل به الدكتور الزاوي في آخر مقال له, وهو مقال عصي الفهم غامض الأساس والغاية, ويحمل الأمور مالا تطيق¸ حيث إنه يبحث عن إستراتيجية ثقافية دون أن يبحث فيها, ويريد أن يجعل من رجل الدين – إن صحت التسمية- مثقفا من الطراز الأول, ويسعى إلى ترقية وزارة الشؤون الدينية إلى مرتبة وزارة سيادة, بل هي الوزارة الأكثر أهمية, والتي تحتل الدرجة الأعلى من وزارة الدفاع, مما يعني أن رجل الدين يحتل مكانة أسمى من مكانة الجنرال, وهذا كله يأتي من حسم العلاقة المتوترة بين الديني والثقافي وبالتالي بين الديني والسياسي, وهو الدور الذي تقوم به المراكز الثقافية, وخاصة منها الإسلامية التابعة لوزارة الشؤون الدينية. بأي وسائل يمكن إنجاز هذه الأحلام المشوشة؟ لم يرشدنا الدكتور إلى ذلك, وما هذا الدور الضخم الذي يسنده الكاتب للقطاع الديني؟ ثم كيف يمكن لهذا المثقف الموسوعي والملم بعلوم الدين والدنيا وبثقافة العصر وتكنولوجياته, أن يختار وظيفة دينية كالإمامة مثلا؟ بل أن يشغل منصب إمام في مسجد صغير بقرية نائية, ما دام الإمام أي إمام يشترط فيه الدكتور أن يكون مثقفا من الطراز الأرفع؟ إن الغموض يلف الموضوع, ولا نكاد تتبين الحدود بين ما هو ديني وما هو مدني, بل ما بين هو ديني وما هو لائكي, حيث إن المطلوب من القطاع الديني أن يقود الثقافة والحداثة والعصرنة ولا يفرق بين ما هو إنتاج للمسلمين من الأفكار وغيرها وما هو لغيرهم, سواء من أهل الديانات الأخرى داخل الأوطان المسلمة, أو من غيرهم من سائر أوطان العالم ومن مختلف الديانات, ثم إن الدكتور يصرح في مقاله بأنه يقصد بالدين كل الأديان السماوية وغير السماوية, ثم عند تقديم الاقتراحات والرؤى يخصص المؤسسة الإسلامية في الجزائر تحديدا, مما يزيد الأمر إيغالا في الغموض. إن الدكتور يبحث عن فقيه أو أي قائم بوظيفة دينية من طراز ابن رشد أو الإمام الشافعي, وهو أمر مستحيل حتى في أيام الازدهار والحضارة, ففي وظيفة الإمامة مثلا هناك إمام الصلوات الخمس, وهو عادة لا يخاطب المصلين ولا يتولى الوعظ والإرشاد, ولا يمكن إيجاد ابن رشد لكل مصلى في أي ركن من البلد, ولا داعي لذلك أصلا, فضلا عن أن نظير ابن رشد مفقود تماما في العالم الإسلامي الراهن المتخلف من أقصاه إلى أقصاه, وبالتالي نتساءل عن مدى واقعية مثل هذا الكلام, ومدى مصداقيته؟ وبعد هذا هل بالإمكان حل مشكلة الانبعاث الحضاري الإسلامي بإعطاء الأولوية للقطاع الديني ومراكزه الثقافية, أم أن المسألة تعني كل القطاعات وكل المجتمع, وهي إشكالية الحضارة والرقي, ومن حجم لا يمكن حله بعصا سحرية, ثم إذا كان المخرج عن طريق القطاع الديني, فهل المطلوب هو قيام نظام إسلامي على غرار إيران مثلا, حيث لا يمكن تصور مثل هذه الأولوية للقطاع الديني دون أن تكون الدولة دينية, بمعنى أن الذين يتولون الحكم في هذه الحالة هم لا أقول رجال الدين, لأن وضعنا يختلف عن إيران جذريا من هذه الناحية, فليس لنا طبقة من رجال الدين ذات نفوذ وانتشار واسعين مثل إيران, غير أن من يسمح للقطاع الديني بقيادة البلاد لا يكون إلا من أتباع إيديولوجية دينية على الأقل, أي من يقال عنهم إسلاميون. إنه من الصعب جدا إيجاد مرتكز للفهم والاقتناع في مقال الدكتور, فلا تكاد تتبين القصد القابل للاستيعاب بين سطوره, بحيث لا يلتزم خطا واحدا منسجما ومتسقا في شتى مراحل الطرح, ولا ينتهي إلى حلول ومقترحات واقعية ومنطقية قابلة للإنجاز, فهو يريد إستراتيجية ثقافية وطنية موحدة, ثم تجده يفرد القطاع الديني بها, ويسعى من خلال هذا المسار إلى حل معضلة التوتر القائم بين الديني والثقافي مما يؤدي إلى إزالة التوتر بين الديني والسياسي, هكذا ببساطة ومن غير تحليل نظري على الأقل للسبيل المؤدي حتما إلى هذه النتائج الباهرة. إن الأهداف الواضحة والمتواضعة التي يمكن الحديث عنها وفحص شروط إنجازها ميدانيا, إنما تتمثل في تكوين بعض القيادات الدينية, أو النخبة المسيرة للجانب الفكري والثقافي للقطاع والمساهمة – بالطبع – مع غيرها من النخب, في النهضة الثقافية المنشودة, هذا الهدف الممكن لا يمكن بلوغه إلا بشروط أهمها اختيار المرشحين بصرامة, وعلى أساس الشهادات والمسار الدراسي الذي ينبغي أن يكون لامعا, وليكن ذلك من الطلبة الجامعيين الذين أنهوا دراستهم, والحاملين لشهادة الليسانس وما يعادلها, وإذا كان لا بد من التكوين العلمي والتكنولوجي, كما يقول الدكتور, فليكن هؤلاء المرشحين من الطلبة المتفوقين المتخرجين من معاهد وكليات علمية وتكنولوجية, نعم هكذا بوضوح, إذا أردت تكوي مفتيا أو إماما أو مرشدا من الطراز الرفيع, وبطبيعة الحال فمثل هذا الإمام مثلا لا يكون إلا في مساجد محدودة من الوطن, حيث تكون الحاجة ماسة إليه, وحيث يساهم في نشاطات ثقافية وعلمية إلى جانب وظيفته الأساسية, لفائدة القطاع, أو لغيره من الجهات الوطنية والإسلامية والعالمية. وبطبيعة الحال فإن مثل هؤلاء المنتخبين لا يمكن أن يقبلوا على هذا الأمر إلا إذا أعطوا من الامتيازات المستحقة مالا يعلوها في أي ميدان آخر. لكن هل هذا المسعى الواضح والواقعي والممكن جدا, نظرا للعدد المحدود المطلوب, هل بالإمكان الحصول عليه؟ بهذا المنظور يمكن الحديث عن إستراتيجية واضحة لا غبار عليها, وذات مبادئ وأهداف شفافة وبعيدة عن الضبابية, لكن هل هناك إرادة سياسية مناسبة للسير في هذا السبيل السالك؟ مهلا يا دكتور, فلنتواضع في أطروحاتنا, وليكن الوضوح رفيقنا, والواقعية سبيلنا, ولا نرسل الكلام على عواهنه, ولا يليق بنا أن نكتب من أجل ملء الفراغ, فلا شيء يبرر لنا مثل ذلك الصنيع, وها هو مثل هذا المقترح الذي فرغت من ذكره واضحا كالشمس, لكن من أين لنا بالإرادة السياسية التي تحققه على أرض الواقع, وتسعى إلى حل إشكال القيادة الدينية الرائدة وذات الثقافة الرفيعة والفكر المنير المبدع؟ فليست الأفكار والتصورات هي الغائبة, وإنما الغائب الأكبر هو الجهة المستعدة والقادرة على تحويل الأفكار والتصورات إلى وقائع حية فاعلة على الأرض, هذه هي مشكلة المشاكل, التي لا يمكن القفز عليها, ولله الأمر من قبل ومن بعد. لسنا ندري إن كان الدكتور الزاوي يدعو إلى دولة إسلامية أو إلى تحويل المؤسسات الدينية إلى مؤسسات ثقافية لائكية, لشدة غموض مقصده, واستعصائه على الإدراك وبعده الشديد عن الواقعية, وعلى أي حال, فمقترحنا السابق لتكوين رجال دين أكفاء يحلون مشكلة انعدام الإطارات القادرة على حمل الرسالة الثقافية الدينية المعاصرة واضح وعملي وفعال, لكنه في حاجة إلى الإرادة السياسية المنفذة كما أسلفنا, ومن المهم أن نشير هنا إلى أن أهل العقد والحل عجزوا عن إيجاد مفتي للبلاد, بعد رحيل الشيخ أحمد حماني رحمة الله عليه, ورغم ذلك لم يتجهوا إلى الحل الصحيح وهو تكوين كفاءات شابة قادرة على الإفتاء وغير الإفتاء, من نخبة ثقافية عصرية دينية مطلوبة وضرورية جدا دينيا ودنيويا وثقافيا. ولا يفوتنا أن نذكر هنا بالمأساة الوطنية, التي ذهبت بعشرات الآلاف من الضحايا, وبالخسائر المادية والمالية الجسيمة, وبالمخلفات المأساوية من الجرحى والأرامل واليتامى والثكالى والمغتصبات وغيرها كثير من المعاناة الرهيبة, وكانت في الظاهر نتيجة صراع بين دعاة الدولة الإسلامية ودعاة الديمقراطية, والنتيجة كانت هي المأساة المجانية, فلا دولة إسلامية قامت ولا ديمقراطية تأسست وهيمنت, وهذا هو الإشكال الرئيس الذي يقف حجر عثرة في سبيل النهضة الوطنية المعاصرة, وبالمناسبة نذكر بنزيف الكفاءات الفارة إلى الخارج بكرامتها والباحثة عن العيش الكريم وعن الظروف المناسبة للعمل, أولئك الذين يمثلون زبدة المنتوج البشري الوطني, والقادرين على القيام بأعباء النهضة والتنمية, والذين كونهم الشعب الجزائري بتضحيات كبيرة, وإذا بالبلدان المتطورة وغير المتطورة تنتفع من خدماتهم دون أن تساهم بدينار واحد في تكوينهم. وهكذا تتسرب الثروة البشرية أعظم الثروات وأجلها منا في كل مطلع شمس, ولا أحد يتصدى لوقف هذا النزيف القاتل للأمل في النهضة والتطور, هذا هو لب المشكلة يا دكتور, وهي كما ترى مشكلة سياسية في المقام الأول, مصدرها انعدام الديمقراطية أو ضعفها, مما يجعل الشعب عاجزا عن حماية مصالحه والانخراط في مسار البناء والتشييد والعصرنة الواجبة في ظل هويته, التي تساهم حينئذ في ازدهار الإنسانية قاطبة مع الآخرين. وعندها فقط يمكن الحديث عن حوار الأديان والحضارات وتعاونها, أما الآن ونحن سجناء التخلف والضعف والبؤس, فلا أحد يرغب في التحاور معنا, ومن قال بذلك منهم فهو منافق كاذب أو تائه لا تأثير له, ذلك لأننا قاعدين عن المساهمة في حضارة العصر وإنجازاته, وبالتالي عاجزين عن الحوار أي حوار, لأننا جهلة وضعفاء, ففيم يحاورنا سادة العصر يا دكتور؟ هل يفعلون في موضوع جوعنا أو جهلنا؟ وأية فائدة يمكن أن ينتظروها منا, ونحن مصرين على البقاء في حظيرة التخلف؟ أليس القادرين منا على الحوار إن وُجد الموضوع يعيشون لديهم؟ ثم أليس باب الاجتهاد لدينا مغلق منذ عشرة قرون؟ فهل ندعوهم للتحاور معنا فيما أنتجه أسلافنا منذ ما يزيد عن العشرة قرون؟ أفيقوا ياقوم, وانظروا إلى وجوهكم في المرآة. والله يهدي من يشاء إلى سواء السبيل, ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

ليست هناك تعليقات: