الثلاثاء، 17 فبراير 2009

مرثية

مرثية

في توديع المجاهد محمود حمروش
"كل نفس ذائقة الموت" و " كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام", اللهم إنا لا نسألك القدر وإنما نسألك اللطف فيه, رحل سي محمود إلى دار الخلود, ليكون بإذن الله بين الشهداء والأولياء والصالحين, وحسن أولئك رفيقا, إننا في الحقيقة إذ نرثيك فإنما نرثي أنفسنا, أما أنت فقد أديت الأمانة كاملة غير منقوصة, ولا شيء يحرجك من لقاء ربك, بل إنك قد سرت إلى حيث المستقر الخالد الآمن المطمئن فرحا مسرورا بما قدمت يداك من خير الزاد لمن يعد العدة للرحلة الواجبة من دار الفناء هذه إلى الدار الأخرى حيث ينتظره النعيم المقيم, نرثي أنفسنا يا سي محمود لأن أمثالك معدن ثمين نادر الوجود في هذا الزمان الذي لا شك أنك تبرمت منه, وسئمت الإقامة بين أهله فطلبت الرحيل وكان لك ما أردت فهنيئا لك, أما نحن فمن أين لنا أن نجد لك البديل أيها المجاهد الكبير؟ من أين لنا بالرجل الذي يستوفي كل المعايير المجسدة للإنسانية الحقة؟ لقد كنت المثقف الذي نشأ في بداية فوران عصر النهضة, حيث كان ابن باديس يملأ الدنيا نورا وحماسة وانبعاثا متعملقا, يزلزل كيان الاستعمار البغيض ويرجف أعوانه من المتواطئين والدجالين والمشعوذين, في ذلك الجو المتوثب الزاحف نحو العلا ترعرعت, فما أن بلغت الحلم حتى انطلقت تساهم في تشييد ذلك الصرخ الشامخ الذي وضع أساسه الراسخ العلامة ابن باديس ورفاقه من الرعيل الأول, وما هي إلا سنوات قلائل حتى انفجر البركان كما خطط له الأصفياء من الوطنيين الأحرار الذين قرروا ألا حياة يمكن أن تستمر تحت نير الاستعمار البغيض, اندلعت ثورة نوفمبر المباركة, وهو ما كان أمثالك يتشوقون إليه أحر الشوق, فما كان منك إلا أن سارعت بالتلبية, وقصدت على الفور العرين الأكبر والمعقل الشهير للثورة والثوار, الأوراس وما أدراك ما الأوراس, لقد كان الحديث عنه في تلك الأيام يشبه الأساطير, بل كان من أعظم الأساطير, فما كان منك إلا أن عزمت على العيش في قلب الأسطورة, من هناك كان منطلقك في مسيرة الجهاد المجيدة, حيث كانت لك محطات ربما تكون أبرزها الرسالة الإعلامية التي اضطلعت بها, حيث يكون الفرد الواحد أكثر تأثيرا من آلاف الجنود, سلاح الإعلام خطير وأنت أحسن من يدرك ذلك, وكما قصدت في البداية الأوراس على اعتبار قيمته الأسطورية كأكبر معقل للثورة المتأججة, كانت خطوتك التالية الاشتراك في تأسيس جريدة المقاوم لسان جيش وجبهة التحرير الوطني, ذلك لأن هذه المهمة كانت شاغرة وهو نقص خطير في أداء الثورة, فالكفاح بدون إعلام هو تمثيل في الظلام, وإذن فإن الأولوية كل الأولوية لتأسيس هذا الإعلام المتعدد الوسائل وتفعيله بشكل يليق بعظمة الثورة, وحمل رسالتها النبيلة إلى كل أركان المعمورة, ليكون شاهدا ومبلغا لإنجازات الثورة الزاحفة, فما كان منك إلا أن التحقت بهذا الصف الأول من الكفاح والجهاد في سبيل الله والوطن,رحيلك يا سي محمود إيذان باختفاء جيل بأكمله, جيل الثوار, جيل المجاهدين, جيل الصناديد من الرجال والنساء الذين حرروا الوطن المفدى, وما أدراك ما تحرير الوطن, لا سيما إذا كان الوطن هو الجزائر التي ابتليت باستعمار ليس ككل استعمار, استعمار استيطاني اعتمد أساليب الإبادة الشاملة للثقافة والحضارة والهوية ومارس التطهير العرقي, وما كان بالإمكان أن يجتث مثل هذا الاستعمار السرطاني الخبيث لولا أن هيأت الأمة من محنتها رجالا من أمثالك رفعوا التحدي وقبلوا عن طيب خاطر بدفع المهر الغالي, الحياة مقابل الحرية, ذلك الرهان الذي لا يمكن أن يخسر أبدا, وها هي التجربة الجزائرية الفريدة تثبت ذلك نهائيا, ما دامت تمثل الدرجة القصوى لأي استعمار بغيض مفترض, رحيل جيلك يا سي محمود, ولو أنه أمر طبيعي, تلك سنة الله في الكون, ولن تجد لسنة الله تبديلا, إلا أنه بالنسبة إلينا لا يخلو من إحساس خاص بالخوف, وإننا لنتساءل سرا أو علنا: هل يمكن أن نضمن خلافتكم؟ نعم إن الأجيال تتعاقب وتخلف بعضها بعضا لدى جميع الأمم والشعوب, لكن الوضع بالنسبة إليكم لدى شعبكم الجزائري وأمتكم العربية والإسلامية يختلف تماما, فجيلكم من طبيعة خاصة, طبيعة مكتسبة من الصراع, من أوج الصراع مع العدو الاستيطاني الغاصب للأرض والعرض, مما يعني أن ميلاد جيل مماثل لا يتأتى إلا في ظرف مماثل, ومن أين لنا بذلك الظرف الذي كان لكم فضل تقويضه بعد أن أنجبكم؟ بطبيعة الحال لا لوم على الجيل الجديد, وإن كان لا بد من اللوم فيعود عليكم بعض الشيء, ولست أدري إن كان بإمكانكم حقا أن تجعلوا أبناءكم نسخة طبق الأصل منكم؟ لقد صنعكم محيط عمدتم إلى تغييره جذريا, فهل بإمكان المحيط الجديد الذي أنشأتم أن يضمن ملء الهوة السحيقة بين خصالكم غير العادية وصفات جيل الأبناء العادية؟ إذا كان ذلك فيه شيء من الإمكان فهو دون شك بالغ الصعوبة, ثم إن ظروف الاستقلال لم تكن ضاغطة إلى الدرجة التي تفرض عليكم البحث عما يشبه المستحيل لضمان التواصل بينكم وبين الخلف الجدير بالخلافة, ولعل هذا ما جعلك يا أستاذ تذهب إلى التعليم, حيث كان الآخرون يفرون منه, لكن مهلا فسنعود إلى هذا الموضوع في حينه.
كنت أسمع عنك أيها الراحل الكبير, عندما كنت مسؤولا في جريدة المجاهد الأسبوعي اللسان المركزي لجبهة التحرير الوطني, ولا أتذكر أننا التقينا في تلك الفترة, لكن تعارفنا ولقاءنا المباشر كان في لجنة التعريب الشهيرة التي كانت تنشط في أوائل السبعينات من القرن الماضي في فضاء الحزب العتيد, وإن كان أغلب أعضائها لم يكونوا منتمين لذات الحزب الوحيد تنظيميا, بل كانوا من رجال ونساء التعليم في مختلف المراحل, هناك تعرفت عليك أيها الوطني الغيور عن قرب, وكنت أتابع ما يصدر عنك بكل اهتمام, وقد كنت بحق أحسن من يمثل صفات ذلك الجيل الذي صاغته عبقرية الشعب الجزائري لتواجه به أبغض استعمار استيطاني مغتصب عرفه تاريخ البشرية, كنت أفضل ممثل لذلك الجيل المعجزة, لأنك لم تغير ولم تبدل, بل بقيت متمسكا بجوهر ما كان لدى ذلك الجيل المتميز عاضا عليه بالنواجذ, ولم تجرفك المغريات الكثيرة التي عبثث بغيرك, حافظت على معدنك الصافي, وكان لي شرف مشاهدة ذلك الثبات مجسدا فيك أيها الوطني الغيور, وقد كنت أتساءل عن السبب أو المبررات التي تجعلك تعزف عن الخوض مع الخائضين, والحال أن أبواب الجاه والسلطان مشرعة أمامك عن آخرها؟ إنه أمر صعب الإدراك؟ لكن قرارك بهجر كل شيء والتوجه إلى التعليم مجددا قد كان النقطة المضيئة التي أنارت كل شيء وسلطت الضوء على ذلك الكنز الثمين الذي كنت حريصا عليه كل الحرص, لم تكن أيها المجاهد الصابر مجرد فرد عادي من جيل التحرير والثورة, لقد كنت تمثل نخبة النخب من ذلك الجيل المعجزة, ومن أراد أن يفهم سلوكك ومواقفك فما عليه إلا أن يعود إلى المحيط الذي نشأت وترعرعت فيه, محيط الأسرة الوطنية المجاهدة المؤمنة, ومحيط العلامة ابن باديس والحركة الوطنية الجزائرية برمتها, لقد نشأت وترعرعت في قلب حركة النهضة الوطنية التي مهدت للثورة المسلحة بمختلف مشاربها وتياراتها المتنافسة في مناهج وأساليب الانعتاق والتحرير, ولم تكن مجرد مناضل يا سي محمود, لقد كنت متعلما ومعلما, وتلك مهام تعني الزعامة والقدوة والريادة في ذلك الزمان الخصب الصانع للتاريخ, ومن تلك الممارسات المتميزة في التعلم والتعليم والنضال انتقلت بمجرد اندلاع ثورة التحرير المباركة إلى التطبيق الميداني العملي لمبادئ الوطنية والكفاح والتضحية بكل غال ونفيس في سبيل الله والوطن, فهل يمكن لمن مر بهذه السلسلة الطويلة المتينة من الأمجاد والقيم أن يبدل أو يغير؟ إن ذلك من قبيل المستحيلات, وقد تبثت يا سي محمود حتى آخر لحظة من حياتك على الثوابت والمثل العليا والنضال دون ملل ولا كلل, من أجل ترسيخها في هذه الأرض الطيبة التي أردت أن تهبها الحياة, لكن الأقدار اختارتك لأن تكون النموذج الخالد للأجيال الجزائرية أبد الدهر, إن هذا المثل الذي جسدته بسيرتك العطرة جدير بالدراسة والتأمل والنشر بين الأجيال المتعاقبة في هذا البلد الأمين للاقتداء والاتباع, ذلك لأنه هو السبيل السالك إلى حفظ تراثكم الكنز, وهو المنهج الموصل إلى رقي الوطن وازدهار الحياة في هذه الربوع التي وهبتموها الحرية والاستقلال. جمعت تلك اللجنة الشهيرة كل ألوان الطيف السياسي لذلك العهد, أو ما كان يسمى بالحساسيات السياسية والإيديولوجية والثقافية, كما ضمت ممثلين رسميين عن كل القطاعات وعن دوائر الحزب العتيد, وكان الصراع أحيانا يحتدم, لا سيما في المسائل الإيديولوجية واللغوية, وكثيرا ما كنت أيها الوطني المتميز تحسم النقاش لفائدة الهوية الوطنية الأصيلة, ذلك أن الجميع بعد تدخلاتك القليلة لكن الفاصلة, يقتنعون بما حسمت به الأمر, أو ييأسون بعد مساهمتك العميقة من أي محاولة للسير في اتجاه آخر, ولم يكن ذلك فقط بسبب عمق إدراكك للحقائق التي اكتسبتها نظريا أثناء الدراسة والتدريس والنضال ثم التطبيق الميداني في خضم معركة التحرير الضارية العسكرية والإعلامية, نعم إن حجج من كان مثلك على هذا القدر الرفيع من التكوين الوطني الأصيل لا يمكن أن ترد, وفضلا عن ذلك نزاهتك وزهدك ونقاء ذمتك, فلم تأت إلى اللجنة بحثا عن جاه أو سلطان كما كان شأن الكثير من الوافدين عليها, بل جئت للدفاع عن تلك المكتسبات التي من أجلها اندفعت إلى الجهاد بشوق لا يفهمه أولئك اللاهثين وراء حطام الدنيا, لذلك كانت تدخلاتك النادرة حاسمة, وكان لا بد أن تكون نادرة, لأنها من مستوى رفيع لا يصلح للانغماس في الكثير من اللغو الذي كان يمارسه بعض المتخبطين أثناء الجلسات, لقد كنت تعي تماما حقيقة ما يدور داخل اللجنة وخارجه, وكنت بخبرتك الوطنية العميقة تعرف بوضوح مصادر الأخطار على الهوية والمصير, ومن غيرك يستطيع تمييز الممارسات المعادية, التي تنم عن الاستمرار بشكل أو بآخر لإرادة الاستعمار البغيض وأطماعه البشعة؟ نعم أيها الوطني الرائد, تلك كانت هي مواضع تدخلاتك الحاسمة, وبطبيعة الحال فإن من كان مثلك راسخ القدم في الحقائق الوطنية ما كان له أن يخوض في الكلام الكثير الذي كان من قبيل اللغو مجرد اللغو أو المناورات الشخصية الهادفة إلى حب الظهورأو الفوز بغنائم أو مكاسب من القبيل الذي تتقزز منه نفسك الأبية, كان جهادك في ميدان تلك اللجنة أيها المجاهد الصامد جهادا أكبر, ولا غرو فأنت من الرعيل القليل الذي لم يلق السلاح على عتبة الجهاد الأصغر, الكفاح المسلح, لقد كنت تعرف بعمق وعيك أن هناك جهاد أكبر, وهو ما لا يمكن لمن كان في مثل موقعك من الوطنية وعمق الإدراك للحقائق التاريخية والاستراتيجية أن يتخلف عن خوض هذه المعركة الأهم, وإني أعتقد أن الصراع المتشعب والمصيري داخل تلك اللجنة قد كان من الأسباب الرئيسية لقرارك بالانتقال إلى التعليم, ربما تكون قد شعرت بأن الأخطار الاستعمارية الجسيمة لا زالت قائمة بشكل أو بآخر, ومن بينها الأخطار الثقافية الاستراتيجية, وأدركت بفضل خبرتك الرفيعة أن المكان الملائم لخوض الجهاد الأكبر إنما هو التعليم, حيث تشكل عقول الأجيال وأيديهم ليصنعوا بها المستقبل المأمول, فذهبت دون تردد إلى الموقع الأمامي للجهاد الأكبر, إنه قرار عظيم اتخذته أيها الأستاذ الماهر, يصعب فهمه على غيرك من الباحثين عن المكاسب المادية الزائلة, فمن المعروف في تلك الظروف وحتى يومنا هذا أنه لا يذهب إلى التعليم إلا مضطرا, فكيف يذهب إليه من كان مثلك قادرا على ارتياد كل الوظائف في جميع القطاعات؟ كان بإمكانك أن تختار الموقع الأنفع لك في الإدارة أو الوزارة التي تختارها, فالمجاهد المثقف مثلك لا يمكن أن تغلق في وجهه الأبواب مهما كانت وأينما كانت, لكنك اخترت المدرسة, لأنك لم تكن تبحث عن جاه ولا سلطان ولا امتياز, كنت تريد ترسيخ الاستقلال والمساهمة في التطوير والتحديث والريادة, ومن المنطقي أن تختار التعليم ما دام التحدي يكمن في خلق الثروة البشرية, التي هي أم الثروات, بها يضمن كل شيء وفي غيابها لا يمكن الحفاظ على أي شيء, فالمسألة بالنسبة إليك ضرورة ملحة, إنه المكان الذي لا يعلوه مكان في ممارسة الجهاد الأكبر, جهاد التأمين والتطوير والنهضة الحضارية الأصيلة الحديثة. لذلك إن كان رحيل جيلك أيها الأستاذ المجاهد, هو دون ريب خسارة تاريخية لا سبيل إلى تفاديها, فإن رحيلك أنت بالذات خسارة أكبر, فأنت دون منازع من نخبة النخبة في ذلك الجيل الرائد, لقد صممت على خوض الجهاد الأكبر, بعد أن استسلم الكثير لحياة البذخ والرياش, وإن التحدي الاستراتيجي للوطن يرفع لواءه أمثالك دون غيرهم, وهو ما يصعب تعويضه يا كبير المتحدين, غير أن عزاءنا فيك هو ما كنت تشير به من وجوب التحلي بالتفاؤل والثبات والمرونة, وكون الخير لا يمكن أن ينقطع من هذه الأمة حتى قيام الساعة. لقد رسخت في نفوسنا أيام تلك اللجنة العاصفة التفاؤل والأمل, شأن النفوس الكبيرة مثل النفس الزكية التي كانت تسكن جنباتك أيها الأستاذ الحاذق, وذاك الزاد هو ما نحن به مواجهون محنة فراقك, لا شك أنك أدركت بعد التحاقك بقلعة التعليم أنها تفتقد إلى الجنود الصامدين الصابرين المهرة أمثالك, مما يكون قد ضاعف من شعورك العميق بالخطر الذي يتهدد مصير الهوية والوطن, ذلك أن الذي يلجأ مضطرا إلى وظيفة قل أن يكون من النخبة المعول عليها, لقد هاجرت الكفاءات التي كانت فيه يوما على قلتها إلى قطاعات الثروة والجاه والامتيازات على غرار السوناطراك وقطاعات السيادة, وكانت هجرتك معاكسة مع سهولة الأمر بالنسبة إليك في تلك الأيام وأنت المجاهد المثقف الذي لا يرد له طلب, ولا ترفض له رغبة, لم يكن ذلك مبتغاك, لم تكن تبحث عن الثروة ولا عن الجاه والنفوذ والامتيازات, بل كان مطلبك الجهاد الأكبر, كان مرادك الموقع الملائم لتثمين الاستقلال وتثبيت الحرية وإنشاء الثروة البشرية وتكثيرها وترسيخها فوق هذه الأرض الطيبة, وليس كالتعليم موقعا لممارسة الجهاد الأكبر, ربما كان ذلك هو السبب الذي من أجله عملت القوى المعادية على إفشاله وتنفير النخبة صاحبة الكفاءة والفعالية منه, ولكن مثل تلك الاعتبارات التي لا ريب أنها أثارت في نفسك الأبية مواجع لا يكابدها إلا أمثالك, غير أنها لم تكن لتثنيك عن المكوث في أهم موقع لتحقيق الآمال وصنع المستقبل المزدهر للبلاد والعباد, فكانت تلك خاتمة المطاف في عملك الرسمي, حيث غادرت المدرسة مضطرا إلى البيت لأسباب قاهرة, لكنك لم تيأس ولم تتزحزح عن مواقفك وتنويرك لمن يتصل بك من الأهل والأصدقاء والزملاء, استمررت تجاهد, أيها المجاهد الصامد, إلى آخر نفس من أنفاسك الزكية, حبذا لو انبرى فريق من محبيك الأوفياء لسيرتك العطرة لتفصيل هذه المواقف الخالدة وتبيان أسرارها وخباياها حفاظا على الأمانة وحرصا على بقاء مثل هذه الملحمة التي صنعت الاستقلال, الذي كان يبدو مستحيلا, لكنه وجد فيك وفي أمثالك من يقهرالمستحيل, بل إنك لم تقنع بالاستقلال الذي هو في نظرك وفي مفهوم الاستراتيجية المتنورة مجرد وسيلة لغاية أكبر, هي صنع الجزائر الأصيلة المعاصرة, الجزائر التي تنقل هويتها التليدة إلى أحضان العصر, فتكون المثل في الحضارة العربية المسلمة المعاصرة, كما كانت مثلا وقدوة في الكفاح المسلح, حتى أنها استحقت عن جدارة لقب قلعةالثوار, قلعة الأحرار. تلك أحسن هدية وأثمن رسالة يمكن أن نتركها للأجيال المتعاقبة على هذه الأرض الطيبة الكريمة, إن ذلك ليس بعزيز إذا صحت العزائم وانبرت الإرادات, ونبهت إليه نفحة من نفحاتك الطاهرة أيها الوطني المجاهد المعلم. وداعا يا أستاذ محمود, نودع منك الجسم, أما روحك الطيبة فستظل ترفرف بجناحيها حوالينا إلى أن نلتحق بك في دار الخلود, وستظل تبارك كل من يعمل مثقال ذرة لصالح هذا الوطن إلى يوم يبعثون, وداعا يا سي محمود "كل نفس ذائقة الموت ", " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون" فلتنعم بما قدمت يداك من خدمات جليلة لله والوطن, ولتكن بإذن الله الواحد الأحد بين رعيلك من الشهداء والأولياء والصالحين وحسن أولئك رفيقا, أسكنك الله أرفع درجات جناته الفسيحة, وإنا لله وإنا إليه راجعون.
نسأل الله العلي القدير أن يمن بالصبر والسلوان على أهلك الأخيار من أسرتك الكريمة وإخوانك وأقاربك وأصدقائك ورفاق دربك, إن المصاب فيك جلل يا سي محمود, وسلوانا أنك من أهل النعيم إن شاء الله. اللهم إنا لا نسألك القدر وإنما نسألك اللطف فيه, ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
زميلك المعلم/عبد المالك حمروش

(فيما يأتي كلمة وجهتها آنذاك مع الرسالة لمدير تحرير الشروق, لكنهم لم ينشروا هذه المرثية حسب علمي)

سيدي مدير التحرير المحترم
تحية طيبة
وبعد, إني ألتمس من فضلكم نشر هذه المرثية المتواضعة
وأي كان قراركم, رجائي أن تبلغوا هذه الورقة إلى الحاج يوسف شقيق المرحوم, شفاه الله
إن لم تفز بكرم النشر, لتكون رسالة شخصية مني إليه بهذه المناسبة الأليمة, لأنني لا أعرف عنوانه الإلكتروني
مع فائق التقدير والاحترام

ليست هناك تعليقات: