السبت، 30 يناير 2010

عن كرة القدم والرياضة العربية


كرة القدم والرياضة العربية
لم أكن أنوي إطلاقا العودة إلى هذا الموضوع لولا اطلاعي على ما يكتب من بعض الجيران سامحهم الله, ولا أدري إن كان هناك أمل في الشفاء من هذا الداء المسمى كرة قدم, ولو كان الأمر في حقيقته سياسة تسير بالركل, وقد سبق لي أن فصلت الأمر في مقال خصصته للموضوع. أكرر أنني لست من المهتمين بكرة القدم, وهي في صورتها العربية الراهنة ليست من الرياضة في شيء, ولا أريد أن أطيل عليكم فالمسألة معروفة ولا جديد فيها والعالم كله صار يحفظ عن ظهر قلب مهازلنا الكروية ويضحك ملء فيه سخرية وشفقة, الصديق والعدو معا, أردت فقط أن أذكر بعض الحقائق, ربما كان لها بعض الفائدة لدى الذين حباهم الله سبحانه بعقول يفكرون بها
أولا: إن مباراة الأمس بين الفريقين الجزائري والمصري لا يمكن أن تصنف في هذه الخانة, فهي ليست بالمباراة إطلاقا, ولكم أن تحضروا فريق البرازيل ذاته وتقيمون مقابلة له مع فريق من الأطفال بعد أن تطردوا من الميدان ثلث لا عبيه بل أحسن لاعبيه ومنهم الدفاع وحارس المرمى, بحيث يصبح المرور إلى التسجيل بدون أي عائق, ولكم أن تستنتجوا الباقي !!! لماذا طرد أهم عناصر الفريق الجزائري من الميدان ؟؟؟ العالم كله قريتنا الصغيرة, صار يعرف الجواب عن هذا السؤال, كما عرف ذات يوم قريب سبب إراقة دماء أعضاء من الفريق الجزائري. لقد كان من المفروض أن يسجل الفريق المصري في هذه الحالة أكثر من 40 هدفا, وليس مجرد 04 أهداف, والتي يعتبرها هؤلاء الذين يكتبون أي شيء نصرا مؤزرا, وفيهم من أتى بصور لاندهاش أنصار جزائريين وحزنهم العميق وانزعاجهم, أغلبهم من النساء, من باب التشفي, مع رفع شعارات الأشقاء, والأمة العربية الواحدة وغيرها من الكلام الحلو, أو الذي كان يوما ما كذلك. ويا ليت الأمر كان حقيقيا وجديرا بالرد على وقائع كروية سابقة. وهناك من كتب مقالات كثيرة لكي يشفي غليله, ولا أظنه وصل إلى الارتواء. إلى أين يا قوم ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ أليست هناك نقاط توقف وانتهاء عن هذا المسار العجيب ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ نسأل الله الهداية واللطف بهذه الأمة المسكينة
ثانيا: لقد أثبت تحكيم الأمس, أن الأفارقة عاجزون عن تنظيم كأس قاري لهم, دون أن يستعينوا - على الأقل - بحكام من العالم المتقدم الذي يعرف اللعبة ويقدر الرياضة, ويقوم بالتحكيم في ذلك الإطار, ولا يمكن استمالته مهما عظم الإغراء, ذلك لأنه متقدم ويقدر اللعبة حق قدرها على أساس أنها من الرياضة والمعيار فيها معروف ومحترم. وعليه فعلى إفريقيا أن تسند التحكيم لغيرها أو تتوقف نهائيا عن تنظيم هذا اللقاء القاري وتريح وتستريح
ثالثا: لا الجزائر ولا مصر ولأ أي بلد عربي أو إفريقي آخر بقادر على تكوين فريق كرة قدم من مستوى عالمي, وذلك هو السر في اللجوء إلى عناصر تكونت في أوروبا خاصة, وهي تمارس رياضتها في أندية كبيرة هناك, ولذلك نلجأ إليها عندما نحتاج إلى خدمات فريق وطني, في لقاءات عالمية أو قارية أو حتى ودية مع بلدان أخرى, أي كانت
رابعا: الفريق الوطني الجزائري الحالي يضم أعضاء معظمهم من هذا النوع المتكون بالخارج, في أوروبا بالذات, ويلعب في نوادي وفرق معروفة. وهذا هو السبب في إراقة دماء بعض أعضائه في لقاء القاهرة, وهو السبب أيضا في التحكيم الرفيع المستوى !!! الذي خصص لمقابلة أمس في بنغيلا بأنغولا بين الفريقين الجزائري والمصري
خامسا: إن كان هذا السلوك كرويا فهو بالتأكيد ليس رياضيا, مما يعني أننا وبدرجات متفاوتة لا نمت إلى الرياضة بصلة, وإنما نمارس أمرا ابحثوا له عن أي إسم مناسب, لكن يستحيل نسبه إلى ما يسمى رياضة, والتي تعني أساسا تربية الأجسام وتنشئتها ورعايتها وترقيتها باستمرار, حتى تصل كمالها البشري الممكن, كما حدث ذلك في التاريخ لدى الأمم التي سادت في عصورها, وكما هو الآن عند الأمم الرائدة ذات الزعامة العالمية في جميع مناحي الحياة.
سادسا: تخلفنا العام والكارثي, جعل السياسة الفاشلة في بلداننا تلجأ إلى الكرة لتحولها إلى مستثمرة سياسية مفضلة تقضي بها مآربها, ومنها إلهاء الناس عن مشاكلهم ومصائبهم ومطالبهم, لترتاح منهم ولو لبعض الوقت
سابعا:هذه الوضعية نشأت بين البلدين منذ مدة تجاوزت العقدين من الزمن, وهي في تصاعد مستمر, كلما جمعتهما منافسة كروية, وهي غالبا في إطار تصفيات المونديال أو كأس إفريقيا, ولا ينتظر توقف هذا التصعيد الجنوني ما دامت الحكومتان لا تفعلان أي شيء من أجل ذلك, لأن السلطتين هما المستفيدتين الوحيدتين من هذه الصدامات المأساوية, والتي بلغت هذه المرة درجة كبيرة من الخطورة
ثامنا: إذا استمر هذا التصعيد المؤسف, أتوقع له نتيجتان في الميدان الكروي بالتحديد:
أ- تفجير المنافسة الإفريقية واختفاؤها من الوجود نهائيا
ب - طرد الفريقين من المنافسات الخاصة بتصفيات كأس العالم, لأن هذه فيها الكبار, وهم لا يسمحون بإلغاء المنافسات العالمية, فيكون الحل هو طرد الفريقين معا كحل وحيد ممكن لهذه المشكلة المزمنة, وغير الرياضية بالمرة
تاسعا: يمكن تفهم تبادل التهنئة بين الإخوة المصريين وغيرهم بمن فيهم الجزائريين الذين أكاد أقول من واجبهم تهنئة إخوانهم المصريين على فوز فريقهم, سيما لو كانت المباراة رياضية عادية لا تشوبها أية شائبة. لكن غير المفهوم هو استفزاز أي طرف للآخر وجعله هدفا للسخرية والتشفي والانتقام وغير ذلك من الممارسات المثيرة, والمؤدية إلى ردود الأفعال وتنمية روح الكراهية والبغضاء والحقد, وما يتبع ذلك من نتائج كارثية في كل الميادين
عاشرا: أملي أن ينتبه كل من له استعداد لتفهم المصلحة العليا للأمة إلى هذه الألاعيب التي تدبر للنيل من وجودنا ذاته كأمة, وبالطبع فإذا انتهى هذا الوجود فإن القضاء علينا كأقطار واحدا بعد الآخر أمر في منتهى السهولة, وهو ما نشاهده الآن بالفعل, أفلا تعقلون؟؟؟ ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم


مقابلة أنغولا بين الفريقين

الثلاثاء، 19 يناير 2010

عن اغتيال بقايا التضامن العربي





عن اغتيال بقايا التضامن العربي




و




المباراة المفترى عليها


أعددت هذا المقال عقب تلك الأحداث المشئومة, لكني ترددت كثيرا في نشره بعد ملاحظة حساسية غريبة لدى البعض عند ذكر حقائق واقعية فجائعية, غير أن تسلسل الأحداث المدعمة لظاهرة خدمة أجندة أجنبية بما لا يترك مجالا للشك, لم يعد هناك – منذ الان فصاعدا – أي مبرر للتردد في تسمية الأشياء بأسمائها, من هذه السلسلة الجديدة, التي كانت أول حلقة فيها المباراة التعيسة, التنازل عن قمة فرنسا - إفريقيا لصالح باريس, عقابا للرئيس السوداني على حياده وحسن تنظيمه بإحكام لمقابلة أم درمان, ثم أنباء جدار العار التي نشرها الإعلام الصهيوني, وسرعان ما تأكد الأمر, وبعدها تتوالى الأحداث عاجلة, فتظهر قضية قافلة "شريان الحياة03" وعرقلة وصولها إلى غزة, وبعدها أحداث العريش الدامية, ثم تفاصيل منع بعض السيارات من الدخول إلى غزة بدعوى أنها خاصة, وبعدها اتضح أن من هذه السيارات تلك المخصصة للإسعاف كهدايا لمساعدة غزة, حيث طلب من القافلة - ويا للعجب – ضرورة الحصول على ترخيص من إسرائيل يسمح بدخول هذه السيارات, ثم ترددت أنباء عن طرد المناضل الإنساني الكبير, وصديق فلسطين والعرب, النائب البريطاني "جورج غالاوي" وإخباره بأنه شخص غير مرغوب فيه في مصر, وتتسارع الانهيارات, ليعلن في اليوم الموالي عن توقيف عدد من أعضاء القافلة, ومنع دخول قوافل المساعدات إلى غزة نهائيا, وعن وضع قافلة شريان الحياة في القائمة السوداء, ومنع دخولها - بالتالي - نهائيا إلى الأراضي المصرية, وأيضا صدور قرار منع دخول المساعدات إلى قطاع غزة تماما إلا عن طريق الهلال الأحمر المصري, ولكم أن تتصوروا ما هو مصير وصول المساعدات الإنسانية لمستحقيها المحاصرين منذ سنوات؟ بعد كل هذا الإعلان الواضح عن سياسة محددة الاتجاه ومعلنة بكل إصرار وفي وضح النهار, لم يعد هناك من معنى لمراعاة أي شيء وليتحمل كل واحد مسؤولياته, ولنعد إذن للمباراة, الحلقة الأولى في هذا المسلسل الرهيب, هذه الواقعة الأليمة لا يمكن أن تمر مرور الكرام, لأن ما حدث وما تكشف عنه الأيام تباعا من مهازل مذهلة فاقت كل تصور مهما كان جموح الخيال فيه, لا يمكن السكوت عنه, لقد وجهت ضربة قاسية لبقايا التضامن العربي بمناسبة نسبت زورا وبهتانا لمباراة في كرة القدم, وهي ليست كذلك إطلاقا, وإنما أراد المخططون أن يجعلوا منها محطة لتمرير ما يهمهم, ولإنجاز حلقة جديدة في سلسلة القضاء المبرم على التضامن العربي الذي وصفه أحدهم بحق بأنه سلاح العرب النووي, وهذا ما يفسر إسراع رئيس العصابة الصهيونية "شمعون بيريز" إلى زيارة القاهرة متضامنا ومباركا ومهنئا على الإنجاز العظيم, وربما أنه كان حاملا للثمن اللازم دفعه أو المقابل المتفق عليه مقدما. لقد حاولت قدر مستطاعي الامتناع عن الخوض في الموضوع مرة أخرى, لكني عجزت عن تبرير السكوت والاقتناع به, لا سيما وقد لمست أن الكثير لا زال مصرا على المضي قدما في مشروعه الرهيب, ولا زال إعلام الشتم يواصل مهمته, وقد أصبح واضحا أن هذا التجريح والمس بالكرامة والمقدسات والرموز لا يمكن تبريره بمباراة كرة قدم أو بالربح والخسارة فيها, إن المقصود هو إحداث شرخ عميق يعطل ما بقي من التضامن العربي نهائيا, وقد يكون هذا الهدف الفظيع قد تحقق بالفعل, لقد مس الشعب الجزائري في العمق عندما طال السب والإهانة شهداءه الأبرار, ولا يمكن له أن ينسى هذه الإساءة البالغة إلى الأبد, وسوف يمر وقت طويل قبل أن يطوي الورقة ويضعها في مكان آمن للاعتبار بها طوال التاريخ وإلى يوم يبعثون. وبطبيعة الحال فإن هذا الأمر كان مدروسا ومخططا له ويتوقع حصول هذه النتيجة المطلوبة ضربا للتضامن العربي أو البقية الباقية الضئيلة منه, لفائدة من يهمه الأمر, بعد أن تلقى الطعنة الأولى المتبوعة بطعنات مستمرة في كامب ديفد. لقد لاحظت خلال أيام هذه الأزمة السوداء – للأسف الشديد – وباستغراب بلغ حد الذهول والدهشة أن الكثير من المثقفين المصريين النزهاء والمستقلين, الذين لا يدورون في فلك السلطة, ولا نتحدث عن غيرهم, لا يفرقون بين الوطن والسلطة, ولا بين الوطنية وتصرفات السلطة, إنهم يتحدثون عن مصر والشعب المصري وينسبان إليهما تصرفات السلطة وإعلامها المفلس أو جهازها الدعائي, في الوقت الذي يجب أن يكون الشعب المصري الشقيق ومصر الوطن بعيدا عن كل هذا الهرج والتكالب السلطوي القائم على ركائز ثلاث التوريث وخدمة أجندة العدو بمقابل لا ريب, وتهدئة الجبهة الاجتماعية الملتهبة بفعل جحيم الحياة وهذه هي القضية المشتركة بين النظامين الجزائري والمصري. وإننا لنتساءل حقا بحرقة: ما فائدة مصر وما فائدة الشعب المصري في هذين الأمرين التوريث وضرب التضامن العربي وإصابته في مقتل؟ وهل يمكن لهذا الشعب الأبي أن يجمع على ضلال, إن هذا من المستحيل, كيف يمكن لشعب أي كان أن يسير في طريق موصل إلى ضرب مصالحه؟ هذا لا يعني أننا ننكر تأثر الكثير من هذا الشعب العريق المغلوب على أمره لمدة لا يمكن أن تطول بالتضليل الإعلامي الداعي إلى الحقد والكراهية والعدوان بل هناك من دعا إلى القتل. وبالطبع فقد كان الناس في العالم بأسره يضحكون ملء أفواههم على تصرفات من هذا القبيل بسبب مباراة في كرة القدم, حتى ولو كانت مؤهلة للمونديال. لكن بعد استمرار الوضع اكتشف العالم كله أن القضية ليست قضية كرة إطلاقا, بل هي عملية سياسية منظمة ومخططة ومبرمجة بإحكام الهدف منها التوريث وخدمة أجندة العدو بضرب ما تبقى من التضامن العربي والقضاء المبرم عليه, وتهدئة الجبهة الاجتماعية كما في الجزائر أيضا, هذا هو التبرير المقنع لضخامة الحملة الإعلامية والسياسية الآثمة, وغيره من مباراة لكرة القدم هو افتراء لا سبيل إلى قبول واقتناع المجانين به, فما بالك بالعقلاء من الناس. أما عن مواقف المثقفين الكبار التي استغربتها حد الذهول, فقد وجدت إجابتها الكافية الشافية لدى الشاعر العربي الفلسطيني الكبير في مقال سبق لي نشره تحت عنوان: سميح القاسم في فاجعة المثقفين العرب", والذي ملخصه المركز هو أن المثقفين العرب عبارة عن قطيع من المرتزقة والمأجورين, مع تحفظي لفائدة تلك القلة القليلة التي استنكرت حملة الشتم الأولى من نوعها في تاريخ الإعلام, ولو بعد حين, فحتى المثقف المرتزق المأجور كان يمارس الانتقاد المتحيز, لكنه لم ينزل في يوم من الأيام إلى الدرك الأسفل من الشتائم العارية الجارحة البذيئة.
لقد فهم الناس كلهم – الآن – ورددت ذلك الكثير من وسائل الإعلام أن برمجة التوريث أو الجملكة حسب تعبير البعض عن ظاهرة الجمهوريات الملكية, أي الوراثية التي بدأ الترويج لها في هذه الفترة الزمنية العربية البائسة, كانت قد خطط لها بمناسبة المباراة التي يقتضي الأمر الفوز فيها, ومن هناك- حسب رواية إعلامية - يحمل جمال على الأعناق إلى الأهرام, ليقع الاحتفال الذي دعي إليه فنانون كبار وصغار لإحياء الحفل تحت قدمي أبو الهول, وتعلن تزكية جمال خليفة لأبيه في الانتخابات القادمة, فيصبح أول جملوكي في الجملوكية المصرية, ويا للهدف الكبير. غير أن المخططين نسوا وهم يضعون مشروعهم أن المناسبة غير صالحة تماما لتفويت هذا الإنجاز العظيم, ذلك أنه من غير المعقول الانتصار على فريق أعضاؤه كلهم أو معظمهم محترفون في كبريات الأندية والفرق العالمية الأوروبية. عفوا إنهم لم ينسوا هذا لكنهم وضعوا سيناريو لهزيمة هذا الفريق الذي كان يتمتع بثلاث نقاط زيادة على الفريق المصري, بطرق أخرى غير رياضية, ذلك يعني أنه على هذا الأخير أن يسجل ثلاث أهداف دون مقابل, وهو أمر مستحيل في الظروف العادية, وهنا وضعت الخطة, وهي وجوب جعل الظروف غير طبيعية, وإرهاب هذا الفريق وجعله هو وجمهوره في حالة رعب تجعله ينهزم بكل سهولة, وهذا هو موطن الخلل الأكبر في الخطة الجملوكية العبقرية, لأن هذا الأمر لا يمكن أن يمر خفية عن العالم أجمع ونحن نعيش في زمن القرية الصغيرة التي يعرف كل سكانها كل شيء عما يقع فيها في حينه, وهذا ما وقع بالفعل, وكان الخطأ الأفدح المتمثل في نكران ما وقع ونفيه جملة وتفصيلا في الوقت الذي كانت فيه أضخم وسائل الإعلام والاتصال تعرضه بصوره الرهيبة الدامية على كل البشر في مختلف أركان العالم, فراح الناس الأصدقاء قبل الأعداء يقهقهون شفقة وسخرية من هذا التفكير الذي يخول لصاحبه نفي ما يعلمه كل سكان المعمورة عوض أن يبحث عن وسائل ربما تستر الفضيحة وتحجمها قدر الإمكان, غير أن هذا لا يسمح به الجزء الخارجي من الخطة المحكمة, وهو خدمة أجندة العدو وبالضبط إصابة التضامن بل ما تبقى من التضامن العربي في مقتل لا تقوم له قائمة بعد ذلك. كنت أستغرب ما صرح به أحد منشطي قنوات الفتنة الذي بكى بالدموع الحارة قبل المباراة بأيام بعيدة أو ربما بأسابيع, وهو يتساءل: هؤلاء الجزائريون لماذا يكرهوننا وقد حررناهم وعلمناهم اللغة العربية؟ كنت وقتها وأنا القليل الاهتمام بالشأن الكروي كله أقول في نفسي, ما ذا يريد هذا السيد بالضبط؟ لم أفهم مراده؟ وكنت أتساءل مندهشا هل يريد مثلا أن يتغيب فريق الجزائر عن المباراة؟ لينتصر فريقه بسبب ذلك؟ هل يريد أن يحضر فريقنا ويتعمد الانهزام؟ حاولت كثيرا إيجاد الجواب ولم أهتد, وبقيت كذلك إلى أن وقعت الحوادث الأليمة, فزدت استغرابا, لماذا كل هذا حقا؟ لكن بعض أن اتضحت معالم اللعبة, وهي أن المسألة لا علاقة لها بالرياضة ولا بكرة القدم ولا بالمباراة ولا بالتأهل إلى المونديال لا من قريب ولا من بعيد, كل ما هنا لك أن المناسبة قد اختيرت ووضعت خطة بشأنها من أجل تفويت حكاية التوريث والجملكة, ومن أجل القضاء المبرم وبصورة نهائية على القدر الضئيل الباقي من التضامن العربي, الذي سماه البعض بحق قنبلة العرب النووية, به ينجزون ما يشاءون, ومن غيره لا يستطيعون فعل أي شيء إطلاقا, كما هو واقع الحال, إلى جانب الهدف الثالث المشترك بين النظامين الجزائري والمصري وهو تهدئة الجبهة الاجتماعية الملتهبة وإلهائها ولو إلى حين. اتضحت هذه الأمور الرهيبة بعد فوز الفريق المصري, وعدم توقف أعمال العنف بل زادت حدة, ثم افتعال حوادث في السودان لا وجود لها تماما, أو هي عبارة عن مناوشات قليلة عادية, تحدث في كل مباراة حتى ولو كانت محلية داخل البلد الواحد, ثم توجيه التهم للسودان وقطر, بل إن النظام المصري تنازل عن تنظيم قمة فرنسا – إفريقيا لصالح فرنسا انتقاما من الرئيس السوداني الذي وقف على الحياد أثناء مباراة الفصل, بل وقف موقفا رائعا نبيلا وعظيما عندما استطاع البلد الشقيق أن يحكم التنظيم إلى درجة منع الاحتكاك تماما بين مناصري البلدين, ومن ذلك فصلهم عن بعض في الدخول إلى الملعب والخروج منه, وحتى الحافلات التي تقلهم لا تسير في نفس الشوارع فلكل منها شوارع أخرى موازية لا تلتقي أبدا بحافلات البلد الآخر, وقد قامت الدنيا ولم تقعد عندما صدر تصريح عن الأمن السوداني ينفي فيه وقوع حوادث ذات بال بين الجانبين قبل أو بعد مباراة أم درمان, واستمر التصعيد وأعمال العنف الرهيبة في مصر ضد كل ما هو جزائري إلى درجة محاصرة السفارة أياما واقتحام منزل السفير, واستمرت الفضائيات الشهيرة بدعوتها للفتنة واستفزاز الشعب الجزائري كله بتوجيه أقذع الشتائم إليه تاريخا وثقافة وسلطة ورئيسا ولم يسلم من ذلك الشهداء الأبرار في قبورهم, حيث نالتهم شتائم مرة. بالطبع فإن هذا الجانب موجه إلى ضرب التضامن العربي في الصميم, وبالفعل فقد وصلت الرسالة وحدث الشرخ ولا أحسب أنه سيجبر قبل مرور زمن طويل, ذلك أن ضرب الكرامة والمقدسات لشعب كامل لا يمكن أن تمر هكذا دون عواقب وخيمة, وهذا هو بيت القصيد لأن إسرائيل يهمها كثيرا أن يقبر التضامن العربي, وليس هناك ما يقضي عليه مثل هذه الطعنات النجلاء القاتلة المتوسلة بغرس بذور الفتنة والكراهية والبغضاء بين الشعوب ذاتها, وليس بين الأنظمة فقط كما كان يقع في الماضي, ومن هنا نفهم سبب زيارة رئيس العصابة الصهيونية "شمعون بيريز" في تلك الظروف السوداء. أضف إلى ذلك ما تبع من مهاجمة السودان وقطر وأخيرا بناء السور الفولاذي المنيع على حدود غزة لمنع وصول الغذاء والدواء لأهلها المجاهدين الصامدين, وقد صدر تصريح عن مسئول أمريكي يوضح فيه أن بناء هذا الجدار الجبار كان بقرار مصري بحت, وكان الأجدر به أن يقول بقرار من النظام المصري وحده, وبمحض إرادته, إذا جاز لنا أن نصدق مثل هذا الكلام, فقد اتضح فيما بعد أن النظام المصري إنما قام بتنفيذ أوامر صهيونية أمريكية لهذا المشروع الفولاذي العار. نقول النظام المصري حتى نبعد مصر وشعبها عن هكذا ممارسات لا يليق أن تنسب إليهما ولا يمكن أن تكون كذلك, فليس لعاقل أن يتصرف ضد نفسه, وعكس مصالحه العليا وانتماءاته الحضارية والثقافية والدينية.
لقد هدأت الأمور نوعا ما, لكنها لم تنته, ذلك لأنه لا وجود لإرادة سياسية لإنهائها, وأي كانت درجة مسؤولية هذا النظام أو ذاك فإنهما يشتركان في ترك الوضع مستمرا, ودون شك فإن لهما مصلحة في ذلك وأقلها تسكين الجبهة الاجتماعية أو على الأقل تهدئتها أطول مدة ممكنة, لتخفيف الضغوط عليهما والاستراحة بعض الشيء من تأوهات الجماهير المحرومة بفعل معاناتها الأليمة. ولا شك أن فوائد أخرى أو أهداف تتعلق بأجندة خارجية قد جعلت فضائيات الفتنة وذاك ما يصلنا بسهولة, من الجهاز الدعائي الجبار للنظام المصري, تدعو صراحة إلى العنف والقتل, ومن هذه الفضائيات خاصة تلك التابعة للقطاع الخاص المتضامن مع النظام السياسي, والذي تولى مسألة تسيير الفتنة مبكرا, أظن منذ مباراة الجزائر بين الفريقين الشقيقين, والمقصود من هذا ليس الكرة تماما, بل محاولة جعل الشعب المصري يلتف حول نظامه السياسي, بخلق عدو خارجي يدفع إلى هذا الالتحام العجيب, من أجل تمرير هدف التوريث, وأيضا في ذات الوقت هدف الأجندة الخارجية المتمثلة في قبر التضامن العربي نهائيا. وذلك بإثارة الفتنة وتوجيه كلام جارح إلى العدو المصطنع, وسب رموزه ومقدساته وشعبه وسلطته لترسيخ الكراهية والبغضاء وإحداث الشرخ الذي حدث بالفعل وبشكل يصعب رأبه في زمن منظور. هذه هي الصورة الواضحة للمأساة التي اصطنعها نظامان بمشاركة متفاوتة الدرجة لكن هناك الحد الأدنى من الشراكة على الأقل في هدف تسكين الجبهة الاجتماعية المضطربة أو تهدئتها لأطول وقت ممكن, وهو ما لم يتحقق إلا لأيام معدودات, لأنه لا يمكن للكرة مهما ضخموها أن تغطي على الفقر والبطالة والمرض والحرمان لأغلبية الشعبين, وأيضا بدرجات متفاوتة هنا وهناك, نظرا لتفاوت عدد المواطنين والثروة الوطنية المتاحة. فعلى الجانب الجزائري لم تهدأ الجبهة الاجتماعية تماما حتى في تلك الأيام السوداء قبل المباراة الأولى وبين المباراتين, وبعدهما, ولو أن حدتها خفت نوعا ما, لقد كانت هناك إضرابات واسعة في قطاعات ضخمة مثل التعليم, استمرت ولم تتوقف, أما بعد المباراة والانتصار والتأهل للمونديال وما صاحب ذلك من احتفالات كبيرة, فإن الأمر لم يستمر شهرا كاملا, حيث ظهر شبح الموت يحصد الأرواح بسبب أنفلونزا الخنازير التي واجهها النظام بطريقته الفاشلة المعتادة, مما جعل الجبهة الاجتماعية تعود بسرعة إلى غليانها السابق للمباراة والاحتفالات بالنصر الرياضي الذي خلق أجواء وطنية غريبة عن الوضع السائد, فلأول مرة يصفق الشباب بحماس منقطع النظير شبه بما كان يتفاعل به مع الراحل الكبير الرئيس بومدين, فعل ذلك الشباب عندما اتخذ الرئيس بوتفليقة قرار إرسال 10 آلاف شاب إلى المباراة الفاصلة لتشجيع الفريق الوطني وطمأنته, كما تردد أنه حجز في ذات الوقت 10 آلاف تذكرة لهؤلاء المناصرين, الذين سافر معظمهم إلى الخرطوم على حساب السلطة, إن هذا الاستثمار الشعبوي لم ينس شباب الجزائر فشل النظام وفساده وتهاونه في معالجة مشاكلهم ومشاكل الوطن والشعب إلا أيام معدودات, فسرعان ما عادت الجبهة الاجتماعية إلى سابق عهدها من الغليان, عندما تذكر الناس طريقة معالجة النظام العاجز الذي تنخر عظامه أمراض خطيرة من الرشوة والفساد وسوء التسيير لمشاكلهم اليومية وغير اليومية, مما يجعل الانسجام بين الطرفين مستحيل مهما كانت المناسبة كبيرة والفرحة عارمة, لأن المنغصات أكبر وأضخم من أن تحجبها كرة ولو بالتأهل إلى المونديال في مثل تلك الظروف الصعبة والأليمة لأزمة سوداء افتعلها نظام مصر وشارك فيها نظام الجزائر مستثمرا في محاولة لتبييض وجهه وإحداث التلاحم المفقود بينه وبين جماهير الشعب, بسبب بنيته المتهالكة وسلوكه المضر بمصالح الناس وحياتهم وانتشار البطالة والرشوة والفساد بكل أنواعه, وممارسات أصحاب المصالح وتجاوزاتهم الخطيرة والمهددة بانهيار البناء السياسي كله. لقد تورط النظامان بدرجات متفاوتة في استغلال تلك المناسبة لصالحهما, ولم يفعلا شيئا لإيقاف المهزلة وتصاعدها, وقد كان بإمكانهما إيقافها متى شاءا, بحيث يمكن القول إن المبادرة بالتصعيد كانت تصدر عن النظام المصري فتصادف رد الفعل من جانب النظام الجزائري, الذي ظل مسئولوه في الأيام الأولى صامتين وكأن على رؤوسهم الطير, ثم كانت ردود الأفعال من الصحافة الموصوفة بالمستقلة, أو بعض عناوينها الكبيرة والقليلة, أما الإعلام الرسمي فقد التزم الصمت التام على غرار مسئولي النظام. ثم جاءت مرحلة الاستثمار بمناسبة المباراة الثانية بنقل آلاف الشباب إلى الخرطوم, وغيرها من الخطوات التي كانت تتم بهدوء لا يصاحبه صخب إعلامي, وقد فعلت مفعولها في جلب التأييد المؤقت للرئيس خاصة, كما أن الصحافة المستقلة أو الخاصة قد استثمرت هي الأخرى في المناسبة, إذ كانت جريدة الشروق اليومي أكبر صحيفة جزائرية مثلا, قبل الأزمة تحتفل ببلوغ سحبها المليون نسخة يوميا, لكنها بعد أيام معدودات حققت المعجزة بفضل استثمارها الكبير في الأزمة, فبلغ سحبها اليومي أكثر من مليوني نسخة, وهو رقم خيالي يستحيل بلوغه في الظروف العادية. وعن تصرف القيادتان هناك روايتان شبه رسميتان عن اتصال الرئيسين هاتفيا بعد حادثة الحافلة المشئومة, إذ اتصل الرئيس مبارك بالرئيس بوتفليقة, يطلب منه باسم الأخوة الموافقة على إجراء المباراة في زمانها ومكانها المقررين ويعده بضمان أمن الفريق وأنصاره تماما, وهو ما لم يقع, فما كان من رئيس النظام الجزائري إلا أن وافق. والرواية الثانية تقول إن رئيس النظام المصري اتصل بزميله الجزائري معتذرا على حادثة الحافلة, فكان من هذا الرفض للاعتذار على أساس أن المسألة رياضية, فلتبقى في إطارها فقط, ولا ينبغي أن تعالج سياسيا, مقررا في ذات الوقت إجراء المباراة في مكانها وزمانها المحددين, مما اضطر الفيفا التي كانت تفكر أو ربما قررت مبدئيا إجراء المباراة في بلد محايد إلى طلب ضمانات مكتوبة من السلطات المصرية على سلامة الفريق الجزائري وأنصاره, وقد حصلت على تلك الضمانات لكن دون جدوى, فقد استمر العنف بشكل مثير للدهشة والاستغراب آنذاك قبل أن يتضح المخطط المشار إليه سابقا. وفي تلك الظروف الرهيبة وقع عقد رئيس النظام المصري اجتماعا لمجلس الأمن القومي, مما يعني أن الاستعداد للحرب وارد, ولولا بعد المسافات وانعدام الاتصال الترابي لكان شيء من هذا القبيل قد حدث, وهل لعاقل أن يتردد لحظة واحدة في أن يكون السبب الحقيقي هو مباراة في كرة القدم مهما كانت أهميتها؟ كل ذلك لا يخرج - في نظري - عن خدمة الأهداف الثلاثة المذكورة أعلاه, والتي تقتضي خلق عدو خارجي أي كان لتوظيفه في حشد الالتفاف الشعبي المطلوب حول السلطة لتجسيد الأهداف المقصودة, والمخطط لها بدقة, كما اعتقد أصحاب الخطة الذين ارتكبوا هفوات خطيرة, أدت إلى انقلاب السحر على الساحر, بالرغم من نجاحهم النسبي في ضرب التضامن العربي في الصميم. لقد أصبح النظام المصري يجاهر بالمعاصي, وإن ما تلا الأزمة السوداء من التنازل على قمة فرنسا إفريقيا عقابا للرئيس السوداني على تنظيمه المحكم والآمن لمباراة أم درمان, ثم الجدار الفولاذي القاتل لأهل غزة بدعوى ممارسة السيادة, وكأن هذه تبرر إبادة شعب شقيق ومقاوم لجرائم الاحتلال الصهيوني وجار بأكمله, وكأن لهذا الإجراء فائدة ومصلحة لمصر وشعبها ولو ضئيلة؟ إن التحدي قد أصبح كبيرا وعلى شعوب العرب أن تتحمل مسئولياتها التاريخية نحو مصيرها ووجودها ذاته كأمة ذات هوية خاصة, إن الأمر يقتضي تنظيم مقاومة قوية وعلى عجل, لتتولى مهمة إنهاء الاستبداد واسترجاع السيادة لصاحبها الشرعي الذي هو الشعب دون غيره, ليولي من يشاء عليه خدمة لمصالحه وحدها دون غيرها, حتى إذا لمس منه انحرافا عن خدمة تلك المصالح أوقفه وعزله واستبدله بغيره فورا ممن يرى فيهم الكفاءة والنزاهة والالتزام, بمعنى أن الشعب هو مصدر السيادة الوحيد يمنح السلطة لمن يشاء وينزعها عمن يشاء متى يشاء خدمة لمصالحه العليا, دون هذا يبقى المستقبل العربي مهددا بخطر جسيم في استمرار وجود الأمة ذاته, تتلاعب به المصالح الفئوية المتحالفة مع نظيرتها الأجنبية, على حساب الشعوب العربية وحاضرها ومستقبلها وهويتها, هذا هو الدرس البليغ الذي يتعين استخلاصه من محنة الأزمة الكروية المصطنعة والمفترى عليها, والتي لا زالت تداعياتها متواصلة خدمة للأهداف المشبوهة التي عرفناها سابقا, إن المطلوب هو إحداث التغيير الديمقراطي على الساحة العربية عاجلا, حتى تستطيع شعوبنا إصلاح أمرها وإنعاش تضامنها سبب قوتها ومناعتها وازدهارها ما دامت وحدة الهوية والمصالح تحتم وحدة المصير المشترك, وعندها لا يمكن لأي شعبين عربيين شقيقين إلا أن يكونا في خندق واحد أي كانت الظروف لأن كلا من المصلحة المشتركة والهوية المشتركة تقتضي التضامن حتما وفي كل
الظروف
.


كنت قد أنهيت موضوعي, لكن ها هو تلاحق الأنباء المشئومة بسرعة جنونية, فبعد كل الأحداث التي أعقبت المنافسة الرياضية المزعومة, ها هي آخر الأنباء تتحدث عن تهديدات صدرت من مسؤولين في حزب النظام المصري بالعمل العسكري ضد غزة الجريحة, وبالطبع فإن هذا العمل متوقع جدا وهو في سياق ما سبقه, وما يمكن أن تأمر به الأوساط الخارجية التي يزعم هذا النظام أنها حليفة له, وقد تكون كذلك لكنها في هذه الحالة تكون عدوة لغزة وفلسطين وكل العرب والمسلبمين بمن فيهم الشعب المصري الشقيق, مما يجعل هذا النظام قاب قوسين أو أدنى من الانتحار, هذا هو المفهوم المنطقي السليم لتحالف أي نظام عربي مع الصهيونية والغرب, ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

الأحد، 10 يناير 2010

سميح القاسم





سميح القاسم في فاجعة المثقف العربي

نشرت الشروق اليومي الجزائرية في عددها: 2813 أمس الأربعاء 06/10/2010م - الموافق لـ 10 محرم 1431هـ حديثا أجراه مبعوثها إلى القاهرة بمناسبة المباراة الكروية سيئة الذكر, بين فريقي البلدين, الجزائر ومصر, مع الشاعر العربي الكبير, الفلسطيني "سميح القاسم", الذي كان ينطق تأوهات من الواقع العربي المظلم, ومن المثقف العربي الغائب في هذا الزمن القومي النحس, لا ليس الغائب بل المنبطح المتهافت على فتات موائد السلطان في أحسن الأحوال, في الوقت الذي كان ينتظر منه أن يحمل مشعل التنوير ويكون الدليل الهادي لشعوب أمته البائسة الواقعة بين كماشتي التخلف وتحالف الساسة مع العدو الصهيو – أمريكي الغربي, لفضح ما يجري وتعرية هذا التحالف الظالم الآثم, حتى تستطيع الشعوب الوقوف على قدميها, وتعرف طريقها نحو المقاومة بعد أن تكون قد أدركت المكيدة المحبوكة من حولها بفضل الأنوار التي يسلطها المثقف العربي على الواقع المزري, الذي فضل أن يزينه ويلبسه حلة قشيبة تعمية للجماهير وتمكينا للحلف الغادر من غرس أظافره الحادة في فريسته حتى العظم, لكي يحصل المثقف الضال على دريهمات معدودات لا تمكنه حتى من الرفاهية التي ينشدها على حساب شعوبه وضميره, فلا هو في السلطة ولا هو في طلائع المقاومة, بل قنع بتقزيم نفسه إلى مجرد مادح يقف على باب السلطان إن هو استطاع بلوغ هذا المقام السافل الذي يتوسل إليه حتى بالدوس على أقدس المقدسات, وما دام فد ارتضى لنفسه هذا الموقف المنحط, فقد كان عليه من هذا المنطلق المخزي ألا يقبل بأقل من الشريك الكامل الحقوق في السلطة وريوعها, ومن أجل هذا الموقف المدان استحق المثقفون العرب المزعومون من القاسم الوصف الواجب الذي عنونت به جريدة الشروق حوارها معه, وجعلته العنوان الرئيس في صفحتها الأولى, وبالبنط العريض:

المثقفون العرب مجرد قطيع من المرتزقة والمأجورين

نكتفي بنشر الفقرة المخصصة لهذا الواقع الأليم من حوار الشاعر الكبير مع الشروق, وقد أرفقته بقصيدة لذات الشاعر, عنوانها "القصيدة الجزائرية" مضمونها لا يبتعد كثيرا عن صلب هذا الموضوع الراثي لحال أمتنا المتردي في هذه الأيام الكالحة, ثم لأن أي واحد يحاول أن يقترب من المهمة الجديرة بالمثقف العربي يجد في طريقه هؤلاء الذين وصفهم القاسم فأجاد الوصف يقفون له بالمرصاد, ويتصدون له بشراسة لا تدانيها شراسة الكواسر من المفترسات, دفاعا عن الموقع المهين الذي استطاعوا بلوغه كمداحين على باب السلطان وماسحين له أحديته بل ومقبلين نعاله, إذا حصل لهم شرف الوصول إليها, وهم في أعلى درجات السعادة, والمقابل دراهم معدودة لا ترفع من شأنهم المادي كثيرا, ولا تميزهم كل التمييز عن واقع البؤس الذي تتمرغ فيه شعوبهم المسحوقة التعيسة, بل إن منهم من يدافع باستماتة مثيرة للشفقة عن التوترات المصطنعة حد العداوة بين شعوب بأكملها من شعوبنا المضطهدة, ومنهم من يتجرأ على الإفتاء من أعلى منبر ديني يفترض فيه العفة والقداسة مبررا منكرات للساسة بل خيانات واضحة لا تغتفر, حتى يصفد الجماهير المسحوقة فلا تفكر في المقاومة مجرد التفكير, ما دامت الفتوى قد صدرت من مصدر لا يرقى إليه الشك في نظر الشعب الناعس, الذي يغط في نومه العميق مخدرا بمشاكله الرهيبة, وممارسات المثقف العربي المكرسة للتخدير والمعمقة له عن طريق أبواق السلطان ومنابره المتنوعة بما فيها المنابر التي لا يتطرق إليها الشك عادة, والتي بالغت وتمادت إلى درجة أصبحت مهددة بضياع الثقة بجدية مكانتها التقليدية المكتسبة لدى الشعوب العربية والإسلامية, فتكون بذلك آخر قلعة تسقط سقوطا مدويا.

فقرتان من الحوار

الشروق: قبل أن نبدأ هذا الحوار قلت لي كلاما جريئا جدا ... قلت بأنك ضد فلسطين
سميح القاسم: من حيث المبدأ أنا عروبي وحدوي وهذه ليست شتيمة ولا كلمة بذيئة, البذيء هو الموقف العربي. أنا مع الوطن العربي الواحد والدولة العربية الواحدة قد يبدو هذا الكلام رومانسيا وطوباويا لكنني أقول بأنه ليس على هذه الأرض كلام أكثر واقعية من خيال الشعراء, ثم إنه لا يوجد أي مبرر أخلاقي أو سياسي أو تاريخي أو اقتصادي "لاستمرار واقع سايكس بيكو", واقع التجزئة الحقير, كما أنه لا يوجد مبرر لاستمرارنا في خيانتنا... نحن نخون أنفسنا ... نحن نرتكب خيانة قومية حين نكرس سايكس بيكو, حين نكرس التجزئة والإقليمية, نحن بذلك نتحول إلى أمة من الخونة. أنا أرفض هذه الخيانة, أنا لا أعترف بشيء اسمه الدول العربية التي أعتبرها منذ عقود "حضائر سايكس بيكو", لكن وما دام شعار الدولة الفلسطينية يعني إنهاء الاحتلال فلا بأس أن أقبل بهذا, لكن مرحليا فقط, كما أن هذا لا يلغي رؤياي الإستراتيجية, والتي تترجم إرادتي في الدولة العربية الواحدة للشعب العربي الواحد, مع أشقائنا الذين يعيشون في هذا الوطن من بربر وأكراد وأرمن, كل هؤلاء أشقاؤنا وشركاؤنا ... أريده وطنا ديمقراطيا علمانيا, يحترم الدين الذي هو أحد أساسات تشكيلنا كأمة, كما أنني أرى بأن البحث عن المزيد من الدول العربية هو في حد ذاته كارثة, هم يريدون دولة على كل بئر نفط, يريدون دولة على كل منجم حديد... يجب أن نخجل من تشرذمنا,من حقارتنا, من وضاعتنا, من انحطاطنا, من كفرنا, من خيانتنا ... لا نستطيع إلا أن نخجل إذا كانت فينا بقية من كرامة قومية وشخصية.
الشروق: ألا تخشى من أن يصنف هذا الكلام والموقف الجريء في خانة "الصرخة في واد", خاصة وأن غالبية المثقفين العرب ينتجون أفكارا غير هذه؟
سميح القاسم: أنت تستفز رغبة السخرية لدي حين تتحدث عن المثقفين العرب, أنا أرى قطيعا من المرتزقة, قطيعا من المأجورين, من الشعراء الوهميين والأدباء الافتراضيين, والمفكرين المرتهنين ... أشباه مثقفين, لا أرى بينهم ابن رشد واحدا, ولا ابن خلدون واحدا, أعطني مثقفا عربيا حقيقيا واحدا بكرامة الثقافة وبكرامة الإسلام والحرية وسأكون سعيدا جدا.
====================================
هاتان فقرتان من حوار مطول أجرته الشروق مع الشاعر العربي الكبير, الفلسطيني سميح القاسم, والذي يتمحور أساسا حول الثقافة والسياسة العربيتين, ويصفهما بما يجب أن يوصفا به, أو بالحد الأدنى الواضح الصريح من ذلك الوصف المستحق, فعلى مثل هذه الحقائق يجب أن ننام ونحلم ونفيق, ولا تفارقنا لحظة في يقظتنا ومنامنا, فذلك هو أقل ما تستحق من اهتمام, لأنها متعلقة باحترام ماضينا التليد والوعي بحاضرنا القعيد والتطلع إلى مستقبلنا المجيد, من غير هذه الحالة التي يجب أن تكرس في الوعي العربي وفي ضمير كل فرد من أمتنا وعقله ووجدانه, نبقى مكبلين بحبال الخطر مسلمين إلى عدونا ليتفنن فينا ذبحا وسلخا كما يحلو له, والعالم الحر العنصري الاستعماري يتفرج ضاحكا هانئا مطمئنا على مستقبل هيمنته على بلداننا واستنزاف خيراتها لفائدة شعوبه التي يعميها الرفاه عن رؤية بؤسنا وعذابنا ومعاناتنا المرة كل مطلع شمس ومسائها, وفي كل لحظات زمننا المتردي المهين البائس. لا فض فوك يا سميح لقد عبرت عن الهم ففضحته وعريته ووضعت أصبعك على الجرح فارتعشت أوصال الأمة كلها وجعا وألما, فهل لمثقفينا آذان يسمعون بها وأعين يبصرون بها وعقول يدركون بها ليلتحقوا بركبك النوراني يا سميح؟ يحملون قناديل التوعية والتعرية للتحالف المرير, تحالف السلطان مع الصهيونية والاستعمار لصنع بؤسنا وإبقاء انحطاطنا والاستثمار في تخلفنا وهواننا ومآسينا, حياك الله يا قاسم, وحيا كل من اتبعك من المثقفين العرب الأحرار إن كان لهم وجود على امتداد هذه الرقعة المتميزة من المحيط إلى الخليج. نعم يا سميح فكرامة العرب وازدهارهم ممكنة جدا ليس بوحدتهم فقط, فذاك هدف يبدو بعيد المنال, رغم واقعيته وضرورته وإستراتيجيته, إن ترقية الحياة العربية ممكنة بمجرد إقرار إطار منظم في مستوى التضامن بإيجاد سوق مشتركة على الأقل, أو اتحاد على غرار الاتحاد الأوروبي, ولم لا؟ يا سميح؟ لكنك وصفت فأبدعت, وحللت فأشبعت, ولا شيء يمكن أن يفسر به وضعنا المزري غير ما ذكرت, ولله في خلقه شؤون, ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.


الاثنين، 4 يناير 2010

تعليق على تعليق


تعليق على تعليق الأستاذ الفاضل ابن عباد
____________________________________
تعليق الأستاذ ابن عباد


اضيف في 30 ديسمبر, 2009 02:30 م , من قبل ibnabadمن المغرب
الأستاذ و الصديق المحترم "المعلم" أحس بسرور كبير و بنشوة و متعة الحوار البناء و الهادف رغم ابتعاد المسافات ، وهذا دليل على تلاحم الشعب العربي و عدم استسلامه للصراعات المفتعلة. وسيأتي اليوم إن شاء الله الذي سيقول فيه الشعب كلمته. أحببت أن يطول بيننا النقاش الذي من شأنه أن ينبهنا إلى نقط قد ينساها أي واحد منا.فتعقيبي إذن ، أوظفه لكي أستطيع توسيع فهمي و رؤيتي للقضايا التي تشغلنا. و ألج باب الموضوع مباشرة : 1ـ سألت أستاذي الفاضل عن الذي يفرق بين شعوبنا والشعوب المتقدمة و هل بالإمكان أن يعيش شعب يتمتع بالوعي تحت كابوس الإستبداد ؟ ـ للجواب على هذا التساؤل ،سأنطلق من التجربة المغربية... ففي الوقت الذي كان يتمتع المغرب إبان مرحلة الإستعمار بوجود أحزاب سياسيةــ لم يهدها له المستعمر ولكنه ضحى من أجل تأسيسها ــ ، وحوار داخلي ومفاهيم دستورية وحركات تقدمية ، كانت إسبانيا ترزخ تحت حكم الحزب الواحد الفالانخي الذي أقره فرانكو والذي فرضه بالقوة بعد قمع منطقة كطالونيا و إخضاعها بالقوة بعد الحرب الأهلية سنة ١٩٣٦. واستمر حكم فرانكو إلى أن مات سنة ١٩٧٥ لكي تنهج إسبانيا مرحلة الدخول في فترة انتقالية بمساعدة جيرانها في أوربا. في هذا الوقت بالذات تراجع هامش الحراك السياسي في المغرب....؟؟؟؟ هل في نظرك ، أن المقارنة بين التجربة في المغرب و إسبانيا ستؤدي بنا إلى الخروج بنتيجة نكتفي فيها بالقول أن الشعب المغربي لم يكن و اعيا بما فيه الكفاية للتمتع بنفس الديمقراطية التي تتمتع بها إسبانيا حاليا ؟؟ ألا يعتبر هذا التحليل من الناحية العلمية غير مطابق للواقع؟؟ أيمكننا أن ننسى التضحيات التي قام بها المغاربة من أجل دمقرطة البلاد و إغفال ما نتج عن ذلك من انتهاكات جسيمة للحقوق؟؟ هل يمكن إغفال دور الإستعمار و الضغوطات الخارجية و اللوبيات الداخلية للقول بأن مسلسل الديمقراطية و نيل الحقوق لم يتحقق بسبب و عي الشعب و إنما بعوامل أخرى لم تتعرض لها تجربة الشعوب الأخرى مثلا.. ؟؟؟ 2ـ هل من الوعي أن تغلق الحدود بين بلدينا ؟؟ ـ ـ أجيبك بطرح السؤال التالي : هل ستجد مغربيا واحدا أو جزائريا واحدا يقبل إغلاق الحدود؟؟ألا يمكن القول بأن الشعب يدرك بأن الأمر قد فرض عليه قهرا و إلزاما و أنه ضد هذا الواقع ؟؟ ألا يمكن القول ، أن المشكل عند الشعب

اضيف في 30 ديسمبر, 2009 02:56 م , من قبل ibnabadمن المغرب
تابــــــع......... ـ هل من الوعي أن تغلق الحدود بين بلدينا ؟؟ ـ ـ أجيبك بطرح السؤال التالي : هل ستجد مغربيا واحدا أو جزائريا واحدا يقبل إغلاق الحدود؟؟ألا يمكن القول بأن الشعب يدرك بأن الأمر قد فرض عليه قهرا و إلزاما و أنه ضد هذا الواقع ؟؟ ألا يمكن القول ، أن المشكل عند الشعب لا يتجسد في و عيه و إدراكه للحقيقة و إنما في كيفية مواجهتها و تفعيل نهج آخر للمقاومة يعتمد على الانتقال من الوعي الصامت إلى الوعي المتحرك و المُفعل بإجراءات نطبيقية ؟؟ 3ـ قضية المواجهة بين الجزائر و مصر : ـ هل هذا الحدث يعبر عن إرادة شعب بكامله ؟؟كم عدد الحاضرين في الملعب و كم عدد المواطنين في كل من مصر و الجزائر ؟؟ هل نستطيغ إغفال الذين رفضوا السقوط في اللعبة الدنيئة التي افتعلتها لوبيات الضغط عن طريق وسائل الإعلام المستأجرة و عن طريق نخبة مستأجرة سبق لي و أن صرحت بأنها خانت الأمانة؟؟؟ لو أجرينا استطلاعا علميا لرأي الشعب عن هذا الحادث ، هل ستكون النتيجة كالتي أراد الإعلام الرسمي عرضها و فرضها لأجل حاجة في نفس يعقوب ؟؟؟؟ ٦ ـ الحائط الفولاذي ؟؟ هل هناك مواطن واحد قي العالم العربي و الإسلامي لا يحس و لا يعي تبعات هذا الإجراء و ما يُراد منه و من يقف ورائه ؟؟؟ هل رأيت ضغطا مشابها للضغط الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني و العربي ، بحيث تقف أمريكا و أوربا ودول أخرى وراء إقامة هذا المشروع ؟؟؟ و لماذا يقام هذا الحائط ؟؟؟ هل لمحاصرة الوعي الفلسطيني بقضيته أم لأن الخصم أحس بأن هذا الوعي قد انتقل في تلك المنطقة إلى نوع من أنواع التفعيل الذي يحتاج لإمدادات و دعم لوجستيكي ،فحاول العدو بالتالي إلى قطع الإمدادت التي يوفرها الشعب للشعب و ليس سوى الشعب ؟؟؟؟ ألا تعتقد أن كبر المؤامرة و تزايد الضغط ووقاحة المتآمرين تدل على شراسة المواجهة بين الأطراف ؟؟؟هل كانت ستسعى أمريكا و إسرائيل إلى بناء هذا الحائط بأيادي مصرية لولا الإحساس بوعي الشعب و خطورة الموقف ؟؟؟ (تــــابع .....)

اضيف في 30 ديسمبر, 2009 03:30 م , من قبل ibnabadمن المغرب
(تـــــابع ....) في نظري أن الوعي فيه درجات ، و أن شعبنا العربي يحتل درجة لا بأس بها من هذا الوعي ، فإذا كان الوعي هو الفهم و إدراك الحقائق كمرحلة أولية ، ،فإن الشعب العربي أصبح قادرا على فهم و ضعيته ،و لا نبالغ إذا قلنا أننا نعيش مرحلة سجال وحوار في الموضوع و أن الشعوب العربية تمارس خطابا سياسيا يتميز بالاستنكار و عدم الرضى و القبول بالأوضاع.... و في هذا الصدد أود القول بأن مرحلة ترديد نفس الخطاب قد طالت و أنه قد آن الأوان لتغيير منهجية العمل...... فالشعب يعبر عن و عيه عندما يقاطع الانتخبات و عندما تلجأ الحكومات إلى تزوير النتائج الإنتخابية ، لأنها تعلم أنها لوتركت الأمر لإرادة الشعب لأصبحت في "خبر كان". و تاريخ الشعوب العربية الحديث حافل بالعطاء النضالي ، و يمكننا الحديث عن هذا لاحقا...لكن هل نكتفي بهذا القدر من الوعي أم يجب تفعيل هذا النوع من الوعي كي يفرز عن نوع آخر من صور "الوعي المقاوم." أخي العزيز ، أعتقد أن تحليلاتنا تدور في على مدار واحد ، و قد أستطيع إيجاد مقاربة إذا قلت : يلزمنا " وعي "للخروج من هذه المرحلة و الإنتقال إلى مرحلة ثانية نعبر فيها عن إرادتنا لتغيير الواقع المرير الذي و عيناه و فهمناه لككننا استسلمنا للتعايش معه، وهذا هو الجانب السلبي الذي ألوم عليه الشعوب العربية. أتمنى أن يستمر بيننا الحوار ، و أن نعمل صحبة بعض الأساتذة الآخرين ، على تحريك هذا النوع من النقاش الذي يحثنا على الاجتهاد . فهذه النقاشات لفتت انتباهي إلى عدة أشياء و جعلتني أعيد تقييم نقط عديدة تناولتها في الموضوع .... فشكرا مرة أخرى لاهتمامك القيم و لاتساع صدرك و لحوارك الهادئ و المفيد. تقبل مروري و خالص تحياتي . ابـــــــــــــــــــــن عبـــــــــــــــــــاد
====================================

التعليق على التعليق
==============
استمرارية الحوار
=========
صديقي الأستاذ الفاضل ابن عباد


هذه فرصة ثمينة طالما تمنيتها معتقدا أن غياب الحوار مشكلة كبيرة في درب ارتقاء الوعي لدى شعوبنا, وقد يكون هذا موضوعا لتواصل لاحق, كما أتمنى أن تتسع الحلقة المباركة هذه لتضم زملاء آخرين, ليس بالشكر فقط وإنما بالمساهمة المعمقة, ولا أدري إن كان هذا الحيز مناسبا لهكذا ممارسات, فقد لاحظت أن الفضاء المخصص للتعليق, لا يسمح بأكثر من عدد محدد من الكلمات, مما يجعله غير مؤهل إجرائيا لما نحن بصدده, الأمر الذي اضطرك إلى تجزئة التعليق كما هو أعلاه, وألزمني بإعادة الصياغة أو التناول في هذه الصورة بإحضار الموضوع كله إلى هنا لطرحه في مقال جديد, ومن جهة أخرى يبدو أن الأصدقاء والجيران في الموقع لا يهتمون بقراءة التعليقات, لذلك لم ينتبهوا إلى التسلسل فيها, وبالتالي لم يعلنوا عن آرائهم ومساهماتهم المقتضبة - عادة - لحد الآن, لهذه الأسباب وغيرها ارتأيت إعادة لم شمل الطرح قصد دفع الحوار وتوسيعه إلى أرفع مرتبة ممكنة. وقبل إنهائي للموضوع صدرت تعليقات منها هذا الذي فضل استخدام أطروحة خطيرة هي التكفير للفئة النادرة المنتصرة من المسلمين في أحلك عصورهم هذا, وإني لأتهم هذا الطرح ولا أظنه بريئا بالمرة, مهما كان مصدره.
لقد استفدت من تعليقك القيم فائدة جمة, ومن ذلك ما تفضلت به من مصطلح درجات الوعي, نعم إنه من المهم اعتماد هذه القاعدة الذهبية عند تناول مسألة الوعي, لكني لا أذهب معك إلى كون شعوبنا مدركة لمجريات الأمور, ولكنها لا تفعل شيئا أو مستسلمة, الأمر الذي جعلها تستحق لومك, نعم يا صديقي العزيز إنها ملامة ومسئولة قطعا عما هي فيه من سوء الحال, إلا أن سبب ذلك - في نظري - يعود إلى درجة وعيها المنقوصة, أو إلى الدرجة غير الكافية من وعيها الراهن, وذلك أساسا بسبب خيانة نخبها, كما تفضلت في مرة سابقة, فكون شعبانا في الجزائر والمغرب غير راضيين عن غلق الحدود بين بلدينا الشقيقين وعيا كما ذكرت لا يكفي, أو هي درجة من الوعي دون المطلوب, فالوعي المنتظر هو هذا الذي يمنع هذا الغلق ويجعله مستحيلا على السلطات في الجانبين ما دام الشعب غير راض عنه, لأن ذلك يهدد بقاءها على سدة الحكم جديا, كما يقع في البلاد المتطورة الديمقراطية, وبطبيعة الحال فإن الأمر ينسحب على بقية الأمثلة المستخدمة مثل الجدار الفولاذي الوصمة في جبين شعوبنا أيضا, فلو كان الوعي كاف على الجانبين من الحدود, ولدى شعوبنا كلها أو معظمها, لما أمكن للنظام المصري التفكير مجرد التفكير في هذا المشروع العار, لأنه ببساطة أكثر من كاف للإطاحة به على الفور من الحكم, كما يحدث في البلدان الديمقراطية, ما دام الأمر مناقضا لمصلحة الشعب المعني والأمة كلها. نعم لتفعيل الوعي, بمعنى تجسيد الديمقراطية وترسيمها, عن طريق تنظيم الشعب لنفسه في أحزاب ومجتمع مدني حقيقي ومستقل يستمدان وجودهما واستمرارهما من خدمة مصالح الشعب وحده دون غيره, وإلا بادر بإلغائها -أي الأحزاب- عن طريق مقاطعته الانتساب إليها والتصويت لها في الانتخابات, فيقبض بذلك روحها المارقة حتما. لو كان الوعي مفعلا هكذا يا صديقي العزيز لما وقعت محاولة ناجحة إلى حد بعيد لضرب التضامن العربي الضربة القاضية باستعمال مباراة كرة قدم, حتى ولو كانت مؤهلة للمونديال, لقد أصيب ما بقي من التضامن العربي في مقتل بهذه المناسبة الأليمة, وقد استعملت لذلك أدوات مناسبة, من شتائم وإهانات موجهة لشعب بأكمله ولتاريخه ورموزه على رأسها شهدائه الأبرار, وحرق علمه, ولسلطاته القائمة - إن صح اعتبارها كذلك, ما دامت هي الأخرى لم تقصر في استغلال المناسبة لصالحها - ولرئيسه, ذلك لأن الخطة الرهيبة اقتضت استعمال هذا المستوى من الإساءة بقصد الوصول إلى الجماهير الواسعة وزرع بذور الكراهية والبغضاء والعداء في قلوبها, وقد حصل بالفعل, ولن يمحى إلا إذا ارتفع الوعي الجماهيري إلى درجة إدراك ما حصل بوضوح تام, وكونه يستهدف مصالحها العليا والحيوية في الجانبين وفي مجمل الوطن العربي, وإلا لماذا كلف "شمعون بيريز" نفسه مشقة الحضور في تلك الأيام السوداء إلى القاهرة؟
أما عن كون الأحزاب دليلا على الديمقراطية والوعي الذي جعل الشعب المغربي الشقيق يخوض معركة التحرير والاستقلال, نعم تلك درجة من الوعي, ما دمت قد توصلت بثاقب نظرك وكفاءتك المنهجية إلى حل هذه الإشكالية باستحداثك لمصطلح درجة الوعي, إنها درجة تناسب تلك المرحلة, والواقع أن الوعي التحرري أو التحريري أبسط وأسهل من الوعي المطلوب اليوم, والذي يمكن وصفه بالتنموي والتحديثي والديمقراطي, ذلك أن العدو في تلك الظروف واضحا, والوعي به تلقائيا وآليا, ولا يحتاج إلى كبير جهد, أما الآن فالعدو منا وهو داخل ديارنا, ومقاومته قد توصل صاحبها إلى تهمة الخيانة العظمى, وما يترتب عنها من عواقب وخيمة. لقد اندهشت كل الدهشة لردود أفعال بعض المثقفين المصريين أثناء الأزمة الموصوفة عبثا بالكروية وفي أوجها, لقد انخرطوا فيها كما لو كان الذي يحدث هو خطر جسيم يهدد الوطن, لذلك يجب التصدي للعدو الغاشم, حيث إن الخطة - في نظري -تهدف تكتيكيا إلى إيجاد عدو خارجي, ولا أتحدث عن المثقفين المأجورين العاملين في أجهزة الدعاية - كما قيل بحق - وليس أجهزة الإعلام كما كانت تسمى, في الوقت الذي كان شمعون بيريز يستقبل فيه بالأحضان في القاهرة كحليف وصديق حميم, بل أتحدث عن الكثير من المثقفين المستقلين, ومنهم أصدقاء حميمين, كادت تلك المواقف الغريبة أن تعصف بصداقتنا نهائيا, ومن ذلك القبيل أساتذة جامعيون كبار كادت علاقاتهم مع نظرائهم في الجامعات الجزائرية أن تقطع نهائيا, لولا أن بعضهم اهتدى إلى اقتراح التواصل اليومي عن طريق النت وغيره, والرسمي كذلك عن طريق المصالح المعنية في الجامعات, بشرط تجنب الحديث تماما عما يجري وتجاهله كليا. إني مصدوم بشدة لمثل هذا الواقع المتردي الذي آل إليه سلوك النخبة, وأي نخبة إنها النخبة الجامعية, وبعض الكتاب والمفكرين المستقلين الذين لا تجد حقا ما تبرر مواقفهم به, ما عدا كون وعيهم السياسي منعدما تماما, أو أنهم انتهزوا الفرصة للتقرب من السلطة, ومحاولة الدخول بذلك إلى قائمة المستفيدين, فهم ويا للعجب لا يفرقون بين الوطن والسلطة القائمة, التي افتعلت أزمة خطيرة باسم الوطن والوطنية, والحال أن الأمر بالعكس تماما, ولا يفوتني هنا أن أنوه بكل اعتزازا بأولئك المثقفين الأشقاء حقا, الذين استنكروا بشدة مواقف زملائهم المنخرطين في حملة تصعيد التوتر وترسيخ الفتنة والكراهية والبغضاء بين الشعبين الشقيقين, لقد كانوا بحق في المستوى الراقي المتوقع من كبار العلماء والكتاب والمفكرين, مما يشير بالنسبة الفريق الأول المتورط في الأزمة إلى أن قضية الوعي ليست مجرد قضية فهم, وإنما تتجاوز ذلك كما تفضلت أنت إلى الفعل, والذي أجد أنا تفسيره في ضرورة قيام الأحزاب المؤطرة للشعوب, والناطقة باسمها, والمعبرة عن مصالحها, والمدافعة عنها بكل الوسائل السلمية, إلى جانب المجتمع المدني الذي يتمتع بنفس المواصفات.
وأعود إلى قضية الوعي الذي أدى إلى الكفاح التحريري والاستقلال, لأستعرض باختصار قدر الإمكان المثال الجزائري الفريد, بسب أن الاستعمار الذي عانت منه بلادي يتجاوز بكثير ما هو واقع في فلسطين, لقد كان استعمارا استيطانيا تحدوه نية الإبادة بالفعل للإنسان والثقافة والحضارة والهوية, فضلا عن الوقت الممتد لذات الممارسة لمدة 132 سنة كاملة, وقد كانت المقاومة شرسة منذ اليوم الأول للاحتلال, حيث امتدت مقاومة الأمير عبد القادر 17 سنة كاملة, وتناولت الراية من بعده مقاومات أخرى عديدة, حتى مشارف نهاية القرن 19, بعدها ظهر النضال السياسي, الذي كان ثمرة الاحتكاك بالنموذج الفرنسي للديمقراطية والحضارة المعاصرة فيما وراء البحر طبعا, وقد كانت تلك الفترة من بداية القرن الماضي شبه امتحان للهوية الوطنية لشعبنا, بعد المحاولات الشرسة لطمسها, إذ أن طلائع من السياسيين المستغربين أو المتفرنسين قد بدأت تشكك فعلا في هذه الهوية, بل ونشأت أحزاب تنادي بالاندماج التام مع فرنسا وطنا وحضارة وهوية ثقافية على الأقل, لكن ذلك الحلم الرومانسي لأولئك الذين تعمدت فرنسا عملا بنصيحة مستشاريها من العلماء والمفكرين فرنستهم وتغريبهم وقطع انتمائهم عن هويتهم, لاستثمارهم في إنهاء المقاومة التي لم تهدأ عشرات السنين طوال القرن التاسع عشر, وهم بالطبع من أبناء المحظوظين من الأعيان المتعاونين مع الاحتلال والمستفيدين منه, غير أن الاستعمار يفضح نفسه بنفسه, وقد كانت الصدمة الأولى في الاحتفال المئوي الأسطوري بذكرى مرور مئة سنة على الاحتلال, سنة 1932م, والذي كان إساءة وإهانة صارخة للشعب الجزائري, مما جعل تلك النخبة المفرنسة تفيق بعض الشيء, وعندها وقبلها بقليل نشأت أحزاب وجمعيات وطنية, مما عرف فيما بعد باسم الحركة الوطنية, منها حزب الشعب الجزائري, الذي أحظر فيما بعد لينبعث باسم حركة انتصار الحريات الديمقراطية, وهو الحزب الوحيد الذي جاهر بطلب الاستقلال والدعوة إلى التحرير, وهو الذي قاد أفراد بسطاء من شبابه اندلاع الكفاح المسلح فيما بعد, ليس برغبة من الحزب طبعا ولا بتدبير أو أمر منه, وأثناء الثورة برزت قيادات جديدة لا تنتمي إليه, لأن الجبهة التي أعلنت الثورة قررت إلغاء الأحزاب, وقبول مناضليها وقياداتها إن هم رغبوا في الانضمام إلى الثورة كأفراد, ليلتحقوا بجبهة التحرير أو جيشها, وكان أن انتصرت الثورة بتحقيق الاستقلال, بثمن باهظ مليونا ونصف المليون من الشهداء, وهم أقدس مقدسات الشعب الجزائري, لذلك عمدت أبواق الفتنة في الأزمة السوداء الأخيرة الموصوفة تلبيسا وبهتانا بالكروية إلى المس بهم, ولم يكن لذلك المس الآثم أثر يذكر لدى الجمهور الواسع في البلد الشقيق, للأسف الشديد, والسبب عندي هو أنه لا يعي ما يحدث وعيا كافيا, ومثله شقيقه الجزائري الذي انطلت عليه الحيلة وتجاوب سلبيا. وأضيف أن هناك من يقدر عدد الشهداء الجزائريين جميعا أثناء ليل الاستعمار البهيم من الاحتلال حتى الاستقلال بعشرة ملايين شهيدا, وعندما خرجت فرنسا من بلادي تركت شعبا تعداده تسعة ملايين نسمة فقط. أما الصدمة الثانية فقد كانت غداة انتهاء الحرب العالمية الثانية, حيث خرج الجزائريون يتظاهرون سلميا مطالبين بتحقيق ما وعدتهم به فرنسا والحلفاء من حق تقرير للمصير أثناء مساهمتهم الكبيرة في الدفاع عن فرنسا في تلك الحرب الضروس, فما كان منها ومن رئيسها "دوغول" الذي اتخذ من الجزائر مقرا له ولحكومته المؤقتة أثناء الاحتلال الألماني لبلاده إلا أن يجيبوا بالحديد والنار وباستعمال المدافع والطائرات والبوارج البحرية لقمع المتظاهرين سلميا من المواطنين العزل, بل لإبادتهم عن آخرهم خاصة في مدن سطيف وقالمة وخراطة, في الثامن من شهر مايو 1945 وما تلاه, حيث سقط عشرات الآلاف من المتظاهرين الأبرياء وغيرهم شهداء, وسقطت معهم أطروحة الاندماج نهائيا, وكذلك الأحزاب كلها, الذي لم يعد لها أي معنى, حيث فهم المناضلون في مجموعها أن المسألة لا تحل بالنضال السياسي وحده أبدا, بل لا بد من الكفاح المسلح لاسترجاع الاستقلال الوطني, وكذلك كان الأمر, حيث تأسست جبهة التحرير من مناضلين شباب مغمورين من حزب الشعب, لكنهم لم يتصرفوا من منطلق حزبي, بل قرروا إلغاء الأحزاب جميعا لقصورها وتقصيرها في خوض غمار معركة التحرير. وفي فجر الاستقلال بقيت جبهة التحرير في الميدان وتحولت إلى حزب سياسي وحيد في البلاد, لكنها فشلت على غرار كل حركات التحرير في العالم العربي وغيره في تحرير الإنسان بعد تحرير الأرض ولو شكليا, كما فشلت كغيرها أيضا فشلا ذريعا في تحقيق التنمية الشاملة المستدامة, وإحداث التغيير النوعي والديمقراطي والحداثي المطلوب. وعندما بدأ الشعب يتململ بعد إدراكه لفشل التقدم الموعود, عمد النظام الحاكم إلى افتعال أحداث 05 أكتوبر 1988م, التي خسر الكثير من الأبرياء فيها أرواحهم أو ممتلكاتهم, وكان الهدف هو تغيير الواجهة بتعددية شكلية لتخدير الشعب بعض الوقت, وقد نجحت الخدعة التي أسفرت في أول اختبار لصدقها عن أحداث مأساوية ذهب ضحيتها عشرات الآلاف من الأرواح البريئة من أبناء الشعب, وما صاحبها من مآسي أخرى كان لها ضحايا ممن استمروا على قيد الحياة في أحوال يرثى لها من الإعاقات الجسمية والنفسية. لنعود إلى نسخة جديدة من الأحادية منذ 11 سنة كاملة, تتكون من ثلاثة أحزاب ظاهريا من بينها حزب جبهة التحرير, تسمى التحالف الرئاسي, مما أدى إلى الجمود التام للحياة السياسية, وتراجع كبير للحرية الإعلامية والحريات العامة, وانعدام المعارضة الفعلية, وشل البرلمان, وكذا دور المجتمع المدني, وأصبح الكل يبحث عن مصيره الشخصي لدى النظام, ولا أحد يهتم بمصير البلد والشعب, وإنما يسعى كل واحد إلى ترقية شخصية عن طريق الوصول إلى قيادة حزبية معينة, أو إلى جوارها والظفر بمكان في المجالس المنتخة البلدية والولائية والبرلمانية, وأيضا مناصب تنفيذية في الوزارات والولايات والسفارات وغيرها, ومن ثم التمتع بالامتيازات التي يمنحها النظام لتلك القيادات مقابل عدم التدخل في أي شيء يخص المصلحة الوطنية العليا ومصير الشعب والوطن. وكل شيء يدفع ثمنه من عائدات البترول التي تمثل أكثر من 95 في المائة من الصادرات الوطنية, وتكاد تكون المصدر المالي الوحيد إلى جانب الضرائب, ذلك لأنه لا وجود لأي استراتيجيه حقيقية لا في المجال الاقتصادي ولا في غيره, أيمكن أن نقول إن الشعب على وعي بما يحدث لأنه يعرف هذه الحقائق عموما, ولأنه يرفض الذهاب إلى صناديق الانتخاب, ولأنه يعرف أن الانتخابات مزورة؟ ثم نقول إن الوعي الموجود كاف لكنه يحتاج فقط إلى تفعيل؟ وبالرغم من إقراري بما تعتبره نضالا وجهودا شعبية معتبرة إلا أنني مع ذلك أتساءل: إذا كان التفعيل كما أفهم هو إيجاد التنظيم الحزبي والمجتمع المدني فهو موجود, وقياداته مستفيدة من امتيازات كبيرة كمقابل لسكوتها, والشعب يعلم هذا ورغم ذلك تستمر تلك الأحزاب في استغلاله كل مرة عندما تأتي الاستحقاقات الانتخابية, إني أوافق صديقي الكريم على أن ما يوجد هو درجة من الوعي, غير أني أرى أن الدرجة المطلوبة للتغيير لا زالت غائبة, وما دامت النخب قد خانت شعوبها, ورضيت بخدمة السلطان, فما على الشعوب إلا أن تبحث عن نخب أخرى مخلصة ومرتبطة بها عضويا, نكون من صلبها بحيث لا يمكن لها أن تفلت من الانتماء الشعبي, وهو أمر ممكن ومطلوب باستعجال من شعوبنا التي تعاني ويلات الاستبداد والهوان وسوء العاقبة والمصير المجهول والخطير حتما, والدور الذي أراه لهذه النخب الشعبية الجديدة هو تأسيس أحزاب سياسية شعبية حقيقية, وأيضا ترسيخ المجتمع المدني ونشره على نطاق واسع على أن يكون حقيقيا كذلك, ممثلا لمصالح الشعب وحده, مثل هذا الأمر يحتاج إلى تضحيات جسيمة, ذلك أن النظام الحاكم ومن معه لا يمكن أن يسمحوا بسهولة لمثل هذه المشاريع السياسية الحزبية والجمعوية الشعبية الحقيقية أن تنشأ وتترعرع, فلا شيء بغير ثمن, ومن طلب يد الحسناء لا يخيفه المهر, ولا أخفي عنك أن هناك من يتحدث على صفحات الجرائد هذه الأيام منذرا بأحداث جديدة أخطر من تلك التي وقعت في الخامس من أكتوبر 1988, ويقدر لها وقتا بقبيل المونديال أو بعيده, وذلك دون شك نتيجة اليأس والوعي بالوضع المتردي, لكن التنظيم الحزبي والجمعوي الذي يمكن أن يقود الاحتجاج المتوقع لا وجود له, مما يشكل خطورة جسيمة ما دام المتوقع في غياب التأطير الحكيم والكفؤ سيسقط في فخ العنف والعشوائية المدمرة, لا قدر الله, لكن ما البديل الممكن؟. أطلت عليك سيدي الفاضل, ولعلي تماديت كثيرا في سرد الأمثلة, غير أن الحال اقتضى ذلك, وصبرك جميل أيها الأخ الكريم. أعبر لك عن بالغ سعادتي بمواصلة هذا الحوار الواعد, والذي بدأت ثماره تؤتي أكلها منذ البداية. تحياتي لك حضرة الأستاذ الفاضل ابن عباد وتقديري.