الثلاثاء، 19 يناير 2010

عن اغتيال بقايا التضامن العربي





عن اغتيال بقايا التضامن العربي




و




المباراة المفترى عليها


أعددت هذا المقال عقب تلك الأحداث المشئومة, لكني ترددت كثيرا في نشره بعد ملاحظة حساسية غريبة لدى البعض عند ذكر حقائق واقعية فجائعية, غير أن تسلسل الأحداث المدعمة لظاهرة خدمة أجندة أجنبية بما لا يترك مجالا للشك, لم يعد هناك – منذ الان فصاعدا – أي مبرر للتردد في تسمية الأشياء بأسمائها, من هذه السلسلة الجديدة, التي كانت أول حلقة فيها المباراة التعيسة, التنازل عن قمة فرنسا - إفريقيا لصالح باريس, عقابا للرئيس السوداني على حياده وحسن تنظيمه بإحكام لمقابلة أم درمان, ثم أنباء جدار العار التي نشرها الإعلام الصهيوني, وسرعان ما تأكد الأمر, وبعدها تتوالى الأحداث عاجلة, فتظهر قضية قافلة "شريان الحياة03" وعرقلة وصولها إلى غزة, وبعدها أحداث العريش الدامية, ثم تفاصيل منع بعض السيارات من الدخول إلى غزة بدعوى أنها خاصة, وبعدها اتضح أن من هذه السيارات تلك المخصصة للإسعاف كهدايا لمساعدة غزة, حيث طلب من القافلة - ويا للعجب – ضرورة الحصول على ترخيص من إسرائيل يسمح بدخول هذه السيارات, ثم ترددت أنباء عن طرد المناضل الإنساني الكبير, وصديق فلسطين والعرب, النائب البريطاني "جورج غالاوي" وإخباره بأنه شخص غير مرغوب فيه في مصر, وتتسارع الانهيارات, ليعلن في اليوم الموالي عن توقيف عدد من أعضاء القافلة, ومنع دخول قوافل المساعدات إلى غزة نهائيا, وعن وضع قافلة شريان الحياة في القائمة السوداء, ومنع دخولها - بالتالي - نهائيا إلى الأراضي المصرية, وأيضا صدور قرار منع دخول المساعدات إلى قطاع غزة تماما إلا عن طريق الهلال الأحمر المصري, ولكم أن تتصوروا ما هو مصير وصول المساعدات الإنسانية لمستحقيها المحاصرين منذ سنوات؟ بعد كل هذا الإعلان الواضح عن سياسة محددة الاتجاه ومعلنة بكل إصرار وفي وضح النهار, لم يعد هناك من معنى لمراعاة أي شيء وليتحمل كل واحد مسؤولياته, ولنعد إذن للمباراة, الحلقة الأولى في هذا المسلسل الرهيب, هذه الواقعة الأليمة لا يمكن أن تمر مرور الكرام, لأن ما حدث وما تكشف عنه الأيام تباعا من مهازل مذهلة فاقت كل تصور مهما كان جموح الخيال فيه, لا يمكن السكوت عنه, لقد وجهت ضربة قاسية لبقايا التضامن العربي بمناسبة نسبت زورا وبهتانا لمباراة في كرة القدم, وهي ليست كذلك إطلاقا, وإنما أراد المخططون أن يجعلوا منها محطة لتمرير ما يهمهم, ولإنجاز حلقة جديدة في سلسلة القضاء المبرم على التضامن العربي الذي وصفه أحدهم بحق بأنه سلاح العرب النووي, وهذا ما يفسر إسراع رئيس العصابة الصهيونية "شمعون بيريز" إلى زيارة القاهرة متضامنا ومباركا ومهنئا على الإنجاز العظيم, وربما أنه كان حاملا للثمن اللازم دفعه أو المقابل المتفق عليه مقدما. لقد حاولت قدر مستطاعي الامتناع عن الخوض في الموضوع مرة أخرى, لكني عجزت عن تبرير السكوت والاقتناع به, لا سيما وقد لمست أن الكثير لا زال مصرا على المضي قدما في مشروعه الرهيب, ولا زال إعلام الشتم يواصل مهمته, وقد أصبح واضحا أن هذا التجريح والمس بالكرامة والمقدسات والرموز لا يمكن تبريره بمباراة كرة قدم أو بالربح والخسارة فيها, إن المقصود هو إحداث شرخ عميق يعطل ما بقي من التضامن العربي نهائيا, وقد يكون هذا الهدف الفظيع قد تحقق بالفعل, لقد مس الشعب الجزائري في العمق عندما طال السب والإهانة شهداءه الأبرار, ولا يمكن له أن ينسى هذه الإساءة البالغة إلى الأبد, وسوف يمر وقت طويل قبل أن يطوي الورقة ويضعها في مكان آمن للاعتبار بها طوال التاريخ وإلى يوم يبعثون. وبطبيعة الحال فإن هذا الأمر كان مدروسا ومخططا له ويتوقع حصول هذه النتيجة المطلوبة ضربا للتضامن العربي أو البقية الباقية الضئيلة منه, لفائدة من يهمه الأمر, بعد أن تلقى الطعنة الأولى المتبوعة بطعنات مستمرة في كامب ديفد. لقد لاحظت خلال أيام هذه الأزمة السوداء – للأسف الشديد – وباستغراب بلغ حد الذهول والدهشة أن الكثير من المثقفين المصريين النزهاء والمستقلين, الذين لا يدورون في فلك السلطة, ولا نتحدث عن غيرهم, لا يفرقون بين الوطن والسلطة, ولا بين الوطنية وتصرفات السلطة, إنهم يتحدثون عن مصر والشعب المصري وينسبان إليهما تصرفات السلطة وإعلامها المفلس أو جهازها الدعائي, في الوقت الذي يجب أن يكون الشعب المصري الشقيق ومصر الوطن بعيدا عن كل هذا الهرج والتكالب السلطوي القائم على ركائز ثلاث التوريث وخدمة أجندة العدو بمقابل لا ريب, وتهدئة الجبهة الاجتماعية الملتهبة بفعل جحيم الحياة وهذه هي القضية المشتركة بين النظامين الجزائري والمصري. وإننا لنتساءل حقا بحرقة: ما فائدة مصر وما فائدة الشعب المصري في هذين الأمرين التوريث وضرب التضامن العربي وإصابته في مقتل؟ وهل يمكن لهذا الشعب الأبي أن يجمع على ضلال, إن هذا من المستحيل, كيف يمكن لشعب أي كان أن يسير في طريق موصل إلى ضرب مصالحه؟ هذا لا يعني أننا ننكر تأثر الكثير من هذا الشعب العريق المغلوب على أمره لمدة لا يمكن أن تطول بالتضليل الإعلامي الداعي إلى الحقد والكراهية والعدوان بل هناك من دعا إلى القتل. وبالطبع فقد كان الناس في العالم بأسره يضحكون ملء أفواههم على تصرفات من هذا القبيل بسبب مباراة في كرة القدم, حتى ولو كانت مؤهلة للمونديال. لكن بعد استمرار الوضع اكتشف العالم كله أن القضية ليست قضية كرة إطلاقا, بل هي عملية سياسية منظمة ومخططة ومبرمجة بإحكام الهدف منها التوريث وخدمة أجندة العدو بضرب ما تبقى من التضامن العربي والقضاء المبرم عليه, وتهدئة الجبهة الاجتماعية كما في الجزائر أيضا, هذا هو التبرير المقنع لضخامة الحملة الإعلامية والسياسية الآثمة, وغيره من مباراة لكرة القدم هو افتراء لا سبيل إلى قبول واقتناع المجانين به, فما بالك بالعقلاء من الناس. أما عن مواقف المثقفين الكبار التي استغربتها حد الذهول, فقد وجدت إجابتها الكافية الشافية لدى الشاعر العربي الفلسطيني الكبير في مقال سبق لي نشره تحت عنوان: سميح القاسم في فاجعة المثقفين العرب", والذي ملخصه المركز هو أن المثقفين العرب عبارة عن قطيع من المرتزقة والمأجورين, مع تحفظي لفائدة تلك القلة القليلة التي استنكرت حملة الشتم الأولى من نوعها في تاريخ الإعلام, ولو بعد حين, فحتى المثقف المرتزق المأجور كان يمارس الانتقاد المتحيز, لكنه لم ينزل في يوم من الأيام إلى الدرك الأسفل من الشتائم العارية الجارحة البذيئة.
لقد فهم الناس كلهم – الآن – ورددت ذلك الكثير من وسائل الإعلام أن برمجة التوريث أو الجملكة حسب تعبير البعض عن ظاهرة الجمهوريات الملكية, أي الوراثية التي بدأ الترويج لها في هذه الفترة الزمنية العربية البائسة, كانت قد خطط لها بمناسبة المباراة التي يقتضي الأمر الفوز فيها, ومن هناك- حسب رواية إعلامية - يحمل جمال على الأعناق إلى الأهرام, ليقع الاحتفال الذي دعي إليه فنانون كبار وصغار لإحياء الحفل تحت قدمي أبو الهول, وتعلن تزكية جمال خليفة لأبيه في الانتخابات القادمة, فيصبح أول جملوكي في الجملوكية المصرية, ويا للهدف الكبير. غير أن المخططين نسوا وهم يضعون مشروعهم أن المناسبة غير صالحة تماما لتفويت هذا الإنجاز العظيم, ذلك أنه من غير المعقول الانتصار على فريق أعضاؤه كلهم أو معظمهم محترفون في كبريات الأندية والفرق العالمية الأوروبية. عفوا إنهم لم ينسوا هذا لكنهم وضعوا سيناريو لهزيمة هذا الفريق الذي كان يتمتع بثلاث نقاط زيادة على الفريق المصري, بطرق أخرى غير رياضية, ذلك يعني أنه على هذا الأخير أن يسجل ثلاث أهداف دون مقابل, وهو أمر مستحيل في الظروف العادية, وهنا وضعت الخطة, وهي وجوب جعل الظروف غير طبيعية, وإرهاب هذا الفريق وجعله هو وجمهوره في حالة رعب تجعله ينهزم بكل سهولة, وهذا هو موطن الخلل الأكبر في الخطة الجملوكية العبقرية, لأن هذا الأمر لا يمكن أن يمر خفية عن العالم أجمع ونحن نعيش في زمن القرية الصغيرة التي يعرف كل سكانها كل شيء عما يقع فيها في حينه, وهذا ما وقع بالفعل, وكان الخطأ الأفدح المتمثل في نكران ما وقع ونفيه جملة وتفصيلا في الوقت الذي كانت فيه أضخم وسائل الإعلام والاتصال تعرضه بصوره الرهيبة الدامية على كل البشر في مختلف أركان العالم, فراح الناس الأصدقاء قبل الأعداء يقهقهون شفقة وسخرية من هذا التفكير الذي يخول لصاحبه نفي ما يعلمه كل سكان المعمورة عوض أن يبحث عن وسائل ربما تستر الفضيحة وتحجمها قدر الإمكان, غير أن هذا لا يسمح به الجزء الخارجي من الخطة المحكمة, وهو خدمة أجندة العدو وبالضبط إصابة التضامن بل ما تبقى من التضامن العربي في مقتل لا تقوم له قائمة بعد ذلك. كنت أستغرب ما صرح به أحد منشطي قنوات الفتنة الذي بكى بالدموع الحارة قبل المباراة بأيام بعيدة أو ربما بأسابيع, وهو يتساءل: هؤلاء الجزائريون لماذا يكرهوننا وقد حررناهم وعلمناهم اللغة العربية؟ كنت وقتها وأنا القليل الاهتمام بالشأن الكروي كله أقول في نفسي, ما ذا يريد هذا السيد بالضبط؟ لم أفهم مراده؟ وكنت أتساءل مندهشا هل يريد مثلا أن يتغيب فريق الجزائر عن المباراة؟ لينتصر فريقه بسبب ذلك؟ هل يريد أن يحضر فريقنا ويتعمد الانهزام؟ حاولت كثيرا إيجاد الجواب ولم أهتد, وبقيت كذلك إلى أن وقعت الحوادث الأليمة, فزدت استغرابا, لماذا كل هذا حقا؟ لكن بعض أن اتضحت معالم اللعبة, وهي أن المسألة لا علاقة لها بالرياضة ولا بكرة القدم ولا بالمباراة ولا بالتأهل إلى المونديال لا من قريب ولا من بعيد, كل ما هنا لك أن المناسبة قد اختيرت ووضعت خطة بشأنها من أجل تفويت حكاية التوريث والجملكة, ومن أجل القضاء المبرم وبصورة نهائية على القدر الضئيل الباقي من التضامن العربي, الذي سماه البعض بحق قنبلة العرب النووية, به ينجزون ما يشاءون, ومن غيره لا يستطيعون فعل أي شيء إطلاقا, كما هو واقع الحال, إلى جانب الهدف الثالث المشترك بين النظامين الجزائري والمصري وهو تهدئة الجبهة الاجتماعية الملتهبة وإلهائها ولو إلى حين. اتضحت هذه الأمور الرهيبة بعد فوز الفريق المصري, وعدم توقف أعمال العنف بل زادت حدة, ثم افتعال حوادث في السودان لا وجود لها تماما, أو هي عبارة عن مناوشات قليلة عادية, تحدث في كل مباراة حتى ولو كانت محلية داخل البلد الواحد, ثم توجيه التهم للسودان وقطر, بل إن النظام المصري تنازل عن تنظيم قمة فرنسا – إفريقيا لصالح فرنسا انتقاما من الرئيس السوداني الذي وقف على الحياد أثناء مباراة الفصل, بل وقف موقفا رائعا نبيلا وعظيما عندما استطاع البلد الشقيق أن يحكم التنظيم إلى درجة منع الاحتكاك تماما بين مناصري البلدين, ومن ذلك فصلهم عن بعض في الدخول إلى الملعب والخروج منه, وحتى الحافلات التي تقلهم لا تسير في نفس الشوارع فلكل منها شوارع أخرى موازية لا تلتقي أبدا بحافلات البلد الآخر, وقد قامت الدنيا ولم تقعد عندما صدر تصريح عن الأمن السوداني ينفي فيه وقوع حوادث ذات بال بين الجانبين قبل أو بعد مباراة أم درمان, واستمر التصعيد وأعمال العنف الرهيبة في مصر ضد كل ما هو جزائري إلى درجة محاصرة السفارة أياما واقتحام منزل السفير, واستمرت الفضائيات الشهيرة بدعوتها للفتنة واستفزاز الشعب الجزائري كله بتوجيه أقذع الشتائم إليه تاريخا وثقافة وسلطة ورئيسا ولم يسلم من ذلك الشهداء الأبرار في قبورهم, حيث نالتهم شتائم مرة. بالطبع فإن هذا الجانب موجه إلى ضرب التضامن العربي في الصميم, وبالفعل فقد وصلت الرسالة وحدث الشرخ ولا أحسب أنه سيجبر قبل مرور زمن طويل, ذلك أن ضرب الكرامة والمقدسات لشعب كامل لا يمكن أن تمر هكذا دون عواقب وخيمة, وهذا هو بيت القصيد لأن إسرائيل يهمها كثيرا أن يقبر التضامن العربي, وليس هناك ما يقضي عليه مثل هذه الطعنات النجلاء القاتلة المتوسلة بغرس بذور الفتنة والكراهية والبغضاء بين الشعوب ذاتها, وليس بين الأنظمة فقط كما كان يقع في الماضي, ومن هنا نفهم سبب زيارة رئيس العصابة الصهيونية "شمعون بيريز" في تلك الظروف السوداء. أضف إلى ذلك ما تبع من مهاجمة السودان وقطر وأخيرا بناء السور الفولاذي المنيع على حدود غزة لمنع وصول الغذاء والدواء لأهلها المجاهدين الصامدين, وقد صدر تصريح عن مسئول أمريكي يوضح فيه أن بناء هذا الجدار الجبار كان بقرار مصري بحت, وكان الأجدر به أن يقول بقرار من النظام المصري وحده, وبمحض إرادته, إذا جاز لنا أن نصدق مثل هذا الكلام, فقد اتضح فيما بعد أن النظام المصري إنما قام بتنفيذ أوامر صهيونية أمريكية لهذا المشروع الفولاذي العار. نقول النظام المصري حتى نبعد مصر وشعبها عن هكذا ممارسات لا يليق أن تنسب إليهما ولا يمكن أن تكون كذلك, فليس لعاقل أن يتصرف ضد نفسه, وعكس مصالحه العليا وانتماءاته الحضارية والثقافية والدينية.
لقد هدأت الأمور نوعا ما, لكنها لم تنته, ذلك لأنه لا وجود لإرادة سياسية لإنهائها, وأي كانت درجة مسؤولية هذا النظام أو ذاك فإنهما يشتركان في ترك الوضع مستمرا, ودون شك فإن لهما مصلحة في ذلك وأقلها تسكين الجبهة الاجتماعية أو على الأقل تهدئتها أطول مدة ممكنة, لتخفيف الضغوط عليهما والاستراحة بعض الشيء من تأوهات الجماهير المحرومة بفعل معاناتها الأليمة. ولا شك أن فوائد أخرى أو أهداف تتعلق بأجندة خارجية قد جعلت فضائيات الفتنة وذاك ما يصلنا بسهولة, من الجهاز الدعائي الجبار للنظام المصري, تدعو صراحة إلى العنف والقتل, ومن هذه الفضائيات خاصة تلك التابعة للقطاع الخاص المتضامن مع النظام السياسي, والذي تولى مسألة تسيير الفتنة مبكرا, أظن منذ مباراة الجزائر بين الفريقين الشقيقين, والمقصود من هذا ليس الكرة تماما, بل محاولة جعل الشعب المصري يلتف حول نظامه السياسي, بخلق عدو خارجي يدفع إلى هذا الالتحام العجيب, من أجل تمرير هدف التوريث, وأيضا في ذات الوقت هدف الأجندة الخارجية المتمثلة في قبر التضامن العربي نهائيا. وذلك بإثارة الفتنة وتوجيه كلام جارح إلى العدو المصطنع, وسب رموزه ومقدساته وشعبه وسلطته لترسيخ الكراهية والبغضاء وإحداث الشرخ الذي حدث بالفعل وبشكل يصعب رأبه في زمن منظور. هذه هي الصورة الواضحة للمأساة التي اصطنعها نظامان بمشاركة متفاوتة الدرجة لكن هناك الحد الأدنى من الشراكة على الأقل في هدف تسكين الجبهة الاجتماعية المضطربة أو تهدئتها لأطول وقت ممكن, وهو ما لم يتحقق إلا لأيام معدودات, لأنه لا يمكن للكرة مهما ضخموها أن تغطي على الفقر والبطالة والمرض والحرمان لأغلبية الشعبين, وأيضا بدرجات متفاوتة هنا وهناك, نظرا لتفاوت عدد المواطنين والثروة الوطنية المتاحة. فعلى الجانب الجزائري لم تهدأ الجبهة الاجتماعية تماما حتى في تلك الأيام السوداء قبل المباراة الأولى وبين المباراتين, وبعدهما, ولو أن حدتها خفت نوعا ما, لقد كانت هناك إضرابات واسعة في قطاعات ضخمة مثل التعليم, استمرت ولم تتوقف, أما بعد المباراة والانتصار والتأهل للمونديال وما صاحب ذلك من احتفالات كبيرة, فإن الأمر لم يستمر شهرا كاملا, حيث ظهر شبح الموت يحصد الأرواح بسبب أنفلونزا الخنازير التي واجهها النظام بطريقته الفاشلة المعتادة, مما جعل الجبهة الاجتماعية تعود بسرعة إلى غليانها السابق للمباراة والاحتفالات بالنصر الرياضي الذي خلق أجواء وطنية غريبة عن الوضع السائد, فلأول مرة يصفق الشباب بحماس منقطع النظير شبه بما كان يتفاعل به مع الراحل الكبير الرئيس بومدين, فعل ذلك الشباب عندما اتخذ الرئيس بوتفليقة قرار إرسال 10 آلاف شاب إلى المباراة الفاصلة لتشجيع الفريق الوطني وطمأنته, كما تردد أنه حجز في ذات الوقت 10 آلاف تذكرة لهؤلاء المناصرين, الذين سافر معظمهم إلى الخرطوم على حساب السلطة, إن هذا الاستثمار الشعبوي لم ينس شباب الجزائر فشل النظام وفساده وتهاونه في معالجة مشاكلهم ومشاكل الوطن والشعب إلا أيام معدودات, فسرعان ما عادت الجبهة الاجتماعية إلى سابق عهدها من الغليان, عندما تذكر الناس طريقة معالجة النظام العاجز الذي تنخر عظامه أمراض خطيرة من الرشوة والفساد وسوء التسيير لمشاكلهم اليومية وغير اليومية, مما يجعل الانسجام بين الطرفين مستحيل مهما كانت المناسبة كبيرة والفرحة عارمة, لأن المنغصات أكبر وأضخم من أن تحجبها كرة ولو بالتأهل إلى المونديال في مثل تلك الظروف الصعبة والأليمة لأزمة سوداء افتعلها نظام مصر وشارك فيها نظام الجزائر مستثمرا في محاولة لتبييض وجهه وإحداث التلاحم المفقود بينه وبين جماهير الشعب, بسبب بنيته المتهالكة وسلوكه المضر بمصالح الناس وحياتهم وانتشار البطالة والرشوة والفساد بكل أنواعه, وممارسات أصحاب المصالح وتجاوزاتهم الخطيرة والمهددة بانهيار البناء السياسي كله. لقد تورط النظامان بدرجات متفاوتة في استغلال تلك المناسبة لصالحهما, ولم يفعلا شيئا لإيقاف المهزلة وتصاعدها, وقد كان بإمكانهما إيقافها متى شاءا, بحيث يمكن القول إن المبادرة بالتصعيد كانت تصدر عن النظام المصري فتصادف رد الفعل من جانب النظام الجزائري, الذي ظل مسئولوه في الأيام الأولى صامتين وكأن على رؤوسهم الطير, ثم كانت ردود الأفعال من الصحافة الموصوفة بالمستقلة, أو بعض عناوينها الكبيرة والقليلة, أما الإعلام الرسمي فقد التزم الصمت التام على غرار مسئولي النظام. ثم جاءت مرحلة الاستثمار بمناسبة المباراة الثانية بنقل آلاف الشباب إلى الخرطوم, وغيرها من الخطوات التي كانت تتم بهدوء لا يصاحبه صخب إعلامي, وقد فعلت مفعولها في جلب التأييد المؤقت للرئيس خاصة, كما أن الصحافة المستقلة أو الخاصة قد استثمرت هي الأخرى في المناسبة, إذ كانت جريدة الشروق اليومي أكبر صحيفة جزائرية مثلا, قبل الأزمة تحتفل ببلوغ سحبها المليون نسخة يوميا, لكنها بعد أيام معدودات حققت المعجزة بفضل استثمارها الكبير في الأزمة, فبلغ سحبها اليومي أكثر من مليوني نسخة, وهو رقم خيالي يستحيل بلوغه في الظروف العادية. وعن تصرف القيادتان هناك روايتان شبه رسميتان عن اتصال الرئيسين هاتفيا بعد حادثة الحافلة المشئومة, إذ اتصل الرئيس مبارك بالرئيس بوتفليقة, يطلب منه باسم الأخوة الموافقة على إجراء المباراة في زمانها ومكانها المقررين ويعده بضمان أمن الفريق وأنصاره تماما, وهو ما لم يقع, فما كان من رئيس النظام الجزائري إلا أن وافق. والرواية الثانية تقول إن رئيس النظام المصري اتصل بزميله الجزائري معتذرا على حادثة الحافلة, فكان من هذا الرفض للاعتذار على أساس أن المسألة رياضية, فلتبقى في إطارها فقط, ولا ينبغي أن تعالج سياسيا, مقررا في ذات الوقت إجراء المباراة في مكانها وزمانها المحددين, مما اضطر الفيفا التي كانت تفكر أو ربما قررت مبدئيا إجراء المباراة في بلد محايد إلى طلب ضمانات مكتوبة من السلطات المصرية على سلامة الفريق الجزائري وأنصاره, وقد حصلت على تلك الضمانات لكن دون جدوى, فقد استمر العنف بشكل مثير للدهشة والاستغراب آنذاك قبل أن يتضح المخطط المشار إليه سابقا. وفي تلك الظروف الرهيبة وقع عقد رئيس النظام المصري اجتماعا لمجلس الأمن القومي, مما يعني أن الاستعداد للحرب وارد, ولولا بعد المسافات وانعدام الاتصال الترابي لكان شيء من هذا القبيل قد حدث, وهل لعاقل أن يتردد لحظة واحدة في أن يكون السبب الحقيقي هو مباراة في كرة القدم مهما كانت أهميتها؟ كل ذلك لا يخرج - في نظري - عن خدمة الأهداف الثلاثة المذكورة أعلاه, والتي تقتضي خلق عدو خارجي أي كان لتوظيفه في حشد الالتفاف الشعبي المطلوب حول السلطة لتجسيد الأهداف المقصودة, والمخطط لها بدقة, كما اعتقد أصحاب الخطة الذين ارتكبوا هفوات خطيرة, أدت إلى انقلاب السحر على الساحر, بالرغم من نجاحهم النسبي في ضرب التضامن العربي في الصميم. لقد أصبح النظام المصري يجاهر بالمعاصي, وإن ما تلا الأزمة السوداء من التنازل على قمة فرنسا إفريقيا عقابا للرئيس السوداني على تنظيمه المحكم والآمن لمباراة أم درمان, ثم الجدار الفولاذي القاتل لأهل غزة بدعوى ممارسة السيادة, وكأن هذه تبرر إبادة شعب شقيق ومقاوم لجرائم الاحتلال الصهيوني وجار بأكمله, وكأن لهذا الإجراء فائدة ومصلحة لمصر وشعبها ولو ضئيلة؟ إن التحدي قد أصبح كبيرا وعلى شعوب العرب أن تتحمل مسئولياتها التاريخية نحو مصيرها ووجودها ذاته كأمة ذات هوية خاصة, إن الأمر يقتضي تنظيم مقاومة قوية وعلى عجل, لتتولى مهمة إنهاء الاستبداد واسترجاع السيادة لصاحبها الشرعي الذي هو الشعب دون غيره, ليولي من يشاء عليه خدمة لمصالحه وحدها دون غيرها, حتى إذا لمس منه انحرافا عن خدمة تلك المصالح أوقفه وعزله واستبدله بغيره فورا ممن يرى فيهم الكفاءة والنزاهة والالتزام, بمعنى أن الشعب هو مصدر السيادة الوحيد يمنح السلطة لمن يشاء وينزعها عمن يشاء متى يشاء خدمة لمصالحه العليا, دون هذا يبقى المستقبل العربي مهددا بخطر جسيم في استمرار وجود الأمة ذاته, تتلاعب به المصالح الفئوية المتحالفة مع نظيرتها الأجنبية, على حساب الشعوب العربية وحاضرها ومستقبلها وهويتها, هذا هو الدرس البليغ الذي يتعين استخلاصه من محنة الأزمة الكروية المصطنعة والمفترى عليها, والتي لا زالت تداعياتها متواصلة خدمة للأهداف المشبوهة التي عرفناها سابقا, إن المطلوب هو إحداث التغيير الديمقراطي على الساحة العربية عاجلا, حتى تستطيع شعوبنا إصلاح أمرها وإنعاش تضامنها سبب قوتها ومناعتها وازدهارها ما دامت وحدة الهوية والمصالح تحتم وحدة المصير المشترك, وعندها لا يمكن لأي شعبين عربيين شقيقين إلا أن يكونا في خندق واحد أي كانت الظروف لأن كلا من المصلحة المشتركة والهوية المشتركة تقتضي التضامن حتما وفي كل
الظروف
.


كنت قد أنهيت موضوعي, لكن ها هو تلاحق الأنباء المشئومة بسرعة جنونية, فبعد كل الأحداث التي أعقبت المنافسة الرياضية المزعومة, ها هي آخر الأنباء تتحدث عن تهديدات صدرت من مسؤولين في حزب النظام المصري بالعمل العسكري ضد غزة الجريحة, وبالطبع فإن هذا العمل متوقع جدا وهو في سياق ما سبقه, وما يمكن أن تأمر به الأوساط الخارجية التي يزعم هذا النظام أنها حليفة له, وقد تكون كذلك لكنها في هذه الحالة تكون عدوة لغزة وفلسطين وكل العرب والمسلبمين بمن فيهم الشعب المصري الشقيق, مما يجعل هذا النظام قاب قوسين أو أدنى من الانتحار, هذا هو المفهوم المنطقي السليم لتحالف أي نظام عربي مع الصهيونية والغرب, ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

ليست هناك تعليقات: