الاثنين، 11 مايو 2009

تناقضات


تناقضات قداسة البابا



بابا الفاتكان "بنديكت16" في الأردن, يقوم بزيارة قالوا "للشرق الأوسط", لكنها في الواقع تقتصر على فلسطين المحتلة, والضفة الغربية, والأردن, لماذا الأردن؟ ربما لكونها "معتدلة" ومجاورة للبقاع المسيحية المقدسة في فلسطين, ولماذا لم تشمل الزيارة مصر, ووضعها مماثل لوضع الأردن؟ وهي ذات وزن كبير في المنطقة؟ ربما أن هناك جوانب نجهلها من العلاقة بين النظام المصري ودولة الفاتكان, تملي على البابا الامتناع عن زيارة مصر في الظروف الراهنة, وعلى أي حال فإننا نجهل المعطيات الحقيقية لهذا الأمر, لذلك لا نستطيع تجاوز التساؤل. أما عن تناقض البابا, سواء كان عفويا أو مقصودا, وهو في الغالب هكذا, فقد أعلن فيه عن سبب زيارته, بكل وضوح, إذ قال: "لقد جئت إلى الشرق الأوسط, لأن العلاقة بين الكنيسة الكاثوليكية والشعب اليهودي غير قابلة للانفصام". وأضاف في إشارة إلى حماس وحزب الله، والمقاومة العربية كلها: "أنه يدين استخدام الدين إيديولوجيا لغايات سياسية", أو كما قال، المهم بالنسبة إلينا هو فحوى تصريحه "السياسي" بالطبع, وقبل أن نخوض في الموضوع, نسجل ما أضافه قداسته بالنسبة للمسلمين, إذ قال إنه يكن احتراما عميقا للمجتمع الإسلامي, وعلى المسيحيين والمسلمين أن يتعاونوا أو يتحدوا باعتبارهم مؤمنين بالله. سبب الزيارة هو التضامن, بل تأكيد الوحدة المتينة بين الكنيسة الكاثوليكية التي يرأسها البابا والصهاينة القتلة المعتدين, " الذين أخرجوا الناس من ديارهم بغير حق", وشردوا شعبا بأسره, واعتدوا, ولا زالوا يعتدون على جيرانه من الشعوب العربية المسلمة ذات النسب الكبيرة من المواطنين المسيحيين, هذه العصابة يسميها قداسته "الشعب اليهودي", إن هذا الشعب لا يوجد في فلسطين المحتلة، بل هو منتشر في العالم بأسره, أما من هم في البلد السليب, الذي يحج إليه المسيحيون, هم في أغلبيتهم الساحقة عصابة من الإرهابيين الخطرين العنصريين, الذين يرفعون شعار " من الفرات إلى النيل بلدك يا إسرائيل", ويمتنعون عن إصدار دستور لكيانهم الغاصب عدو البشرية, بسبب هذا الشعار, بمعنى الامتناع عن تعيين حدود ثابتة لدولتهم المزعومة, حتى يتركون الباب مفتوحا لمزيد من الاستيلاء على أراضي العرب الفلسطينيين وجيرانهم, في توسع لا يعرف النهاية, وهم يلمحون إلى أبعد من هذا الشعار بحقهم في أراضي السعودية واليمن, حيث كان يعيش يهود في الماضي البعيد أو القريب, ووفق هذا المنطق, يمكن أن تمتد أطماعهم إلى كل بلاد العرب والمسلمين, بل إلى العالم كله, على اعتبار أن أكثر نصف اليهود منتشرين في العالم قاطبة, بما فيه الولايات المتحدة الأمريكية, التي أحكموا سيطرتهم عليها, في عهد سيء الذكر بوش خاصة, وتمتعوا بالتأييد المطلق فيما يفعلون من منكرات ومن حروب إبادة وتدمير شامل, ولا زالت الولايات المتحدة الأمريكية ومعها الغرب كله وأذياله يؤيدون العصابة العنصرية المجرمة, بل يزودونها بالمال والأسلحة الفتاكة, ومنها الأسلحة الموصوفة بالدمار الشامل, وقد استعملت منها ما هو محرم دوليا مِؤخرا ضد أطفال غزة ونسائها وشيوخها وأبريائها من المدنيين العزل الصابرين الصامدين، الذين تمنع عنهم حتى الآن العصابة الصهيونية الإرهابية ومعها النظام المصري المشبوه حتى الخبز والدواء, فما بالك بالتبرعات الموجهة إلى إعادة إعمار غزة الصامدة المجاهدة, إن ما قدم قداسة البابا من أجله لزيارة الشرق الأوسط هو طرف غير مشرف, والتعامل معه على مستوى هذه الحميمية, ومن غير مراعاة ولو بسيطة لشعور ضحاياه, لأمر مؤسف للغاية, فضلا عن أنه موقف تحيط به الشبهات من كل جانب. ثم أليس هذا الموقف مناقض تماما لما يصرح به نيافته, من إدانة للاستخدام الإيديولوجي للدين, لخدمة غاية سياسية؟ أليس ما يفعله أشنع من هذا الاستخدام الذي يدينه؟ ما هي خلفيات هذا الموقف؟ وما هي مبررات هذا التناقض الصارخ؟ إن الأمر لا يعدو أن يكون تكريسا للموقف الغربي من العصابة الصهيونية, التي يؤيدها التأييد المطلق, وحيث إن البابا يمثل خلاصة هذا الغرب ونخبته, وأساسه الروحي, فهو لذلك يذهب إلى أبعد من السياسة, حيث أن المستبد بوش ذاته, لم يصدم العرب في زياراته للشرق الأوسط بمثل هذا الموقف المتطرف المعلن, وما دام بوش هو المتطرف الأكبر في الساسة الغربيين المعاصرين، فإن البابا يذهب بموقفه المفضوح هذا إلى أبعد وأبعد وأبعد من التطرف, بمسافات تتجاوز السنوات الضوئية, وهو أمر شنيع من زعيم ديني كبير, من المفروض فيه أن يكون في منتهى الاحترام للبشرية, ولإنسانية الإنسان, حيث إن جوهر الدين هو تكريم الإنسان, وخاصة الإنسان المؤمن, حامل قيم الخير والحق والجمال, والمناضل بل المكافح من أجل سيادتها, ودحر الشر والظلم والعدوان في العالم كله, إن ما ذهب إليه قداسة البابا لأمر يثير الاستغراب والشفقة من هذا التدهور الروحي الذي وقع فيه الغرب المسيطر على مقدرات البشر في هذا العصر البائس المضطرب, بل إن هذه الدرجة من التدهور القيمي والروحي, لتهدد البشرية بمستقبل مريع ومرعب, ويحسن ألا نتجاوز هذا الحد من تحليل هذا الموقف المخجل, حتى لا نصفه بما يسحق من أوصاف شنيعة, لكن المكانة الروحية المفترضة لصاحبه, تجعلنا كمسلمين نترفع عن بلوغ ما يلزم عن هذا التصريح من كلام غير لائق بمن نقول عنه"قداسته". لقد صدرت بعض ردود الفعل المحتشمة في الأردن, تطالب البابا بالاعتذار عما سبق له من إساءة للمسلمين, بعد اعتلائه عرش الكنيسة مباشرة, مما ينبئ عن ذهنية صليبية متطرفة, ولا ندري ما هي مصداقية ما يعلن عنه البابا من احترامه العميق للمجتمع الإسلامي؟ ودعوته إلى التضامن بين المسيحيين والمسلمين، أو كما قال, باعتبارهم مؤمنين بالله؟ فمن جهة يحترم المجتمع المسلم احتراما عميقا, ويدعو إلى التضامن معه على أساس الإيمان بالله, لكن كل تأييده ودعمه واتحاده القوي الذي لا ينفصم, يمنحه للعصابة الصهيونية التي تكن كل العداء لهذا المجتمع المسلم, وتعلن ذلك صراحة, بل تستعمل سلاح الغرب لقتل أطفال المسلمين ونسائهم وشيوخهم ومدنييهم العزل, وتحاصر غزة, بعد شن حرب إبادة وتدمير عليها, وتمنعها من استقبال المساعدات المادية الموجهة لإعادة بناء ما دمرته العصابة, وسوف يقضي الفلسطينيون الضحايا حر الصيف كما قضوا قرّ الشتاء في العراء, ورغم كل هذا ما جاء البابا إلى الشرق الأوسط إلا لزيارة العصابة الصهيونية الإرهابية, متجاهلا في تصريحه كل التجاهل الجرائم البشعة التي حدثت في حرب غزة, وفي حرب لبنان وفي غيرهما, بل إنه يدين المقاومة التي تصدت للعدوان, وأبدت بطولات خارقة, مما أفشل الخطط العدوانية الأكثر تنكيلا وإجراما, إنه لأمر شنيع لا يتصوره العقل السليم, ولا يمكن أن يشرف رجل دين على مستوى عال خاصة, ولو أن هذا الشخص معروف بتعصبه وتطرفه قبل أن يعتلي عرش البابوية, ولا زال كذلك أو أكثر, فلم نسمع عن سابقيه أنهم أساءوا إلى الإسلام علنا كما فعل هو. إن الأمر الأكثر غرابة هو الصمت الذي يواجه به النظام الأردني والنظام الإقليمي العربي الإسلامي, مثل هذه الإهانات والتجاوزات العدوانية المتغطرسة في عقر دار المسلمين والمسيحيين العرب والعجم, ولست أدري مم يخافون, بعد هذا الحد من الاحتقار والإذلال؟ أم أنه كما قيل بحق: ليس لجرح بميت إيلام, ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. لقد كان من المفروض في هذا الضيف المعتدي أن يكون على الأقل في صف المسيحيين العرب الذين هم أحق بتعصبه, إن كان لا بد له من أن يتعصب, أما أن يكون في مساندة الصهاينة وحدهم, دون غايرهم, نعم الصهاينة وليس اليهود كما يدعي, فهو أمر لا يضر المسلمين ولا العرب في شيء, وإنما يلحق أفدح الأضرار بصاحبه الذي تهاوى إلى هذا الحد السحيق من مناصرة الشر والظلم والبشاعة, وإن التاريخ لا يرحم, يا صاحب القداسة, سوف يذكرك بهذه الأوصاف الشنيعة, ويصنفك مع من وضعت نفسك بينهم من أعداء البشرية والحياة. وها هو البابا العظيم اليوم, يعلن من ملعب عمان, حيث أقام قداسا, عن تضامنه مع مسيحيي الشرق الأوسط, بعد أن تجاهلهم بالأمس, ولم يشركهم في الدعم والتأييد والحب مع الصهاينة, ومع إعلان هذا التضامن المتأخر, يدعوهم إلى الإخلاص لجذورهم, وهذا هو البلاء الأعظم, إن قداسته لا يتضامن مع مسيحيي الشرق الأوسط, بل يريد دعم الصهاينة أقوى دعم, بالدعوة الطائفية, مما يؤدي إلى التطاحن بين الطوائف العربية, وإشعال نار الفتنة والحروب الأهلية, بين المسلمين والمسيحيين, لفائدة الكيان الصهيوني, الذي لا يتمنى خدمة أكثر من هذه الخدمة, إن دعوة البابا هذه, تعني بصراحة دعوة مسيحيي الشرق الأوسط إلى التعاون مع العصابة الصهيونية ضد بلدانهم وشعوبهم ومواطنيهم المسلمين, إذ الوفاء إلى الأصول, معناه الإخلاص للعقيدة اليهودية, التي هي أصل العقيدة المسيحية, أو أن هذه تتمة للأخرى, كما يعتقدون, لكن في هذا الأمر مغالطة كبرى, فالذين يريد البابا تضامن مسيحي الشرق الأوسط معهم, ليسوا هم اليهود, بل الصهاينة, والفرق شاسع بين اليهود والصهاينة, ثم ماذا حدث في الغرب بمناسبة إنشاء هذا الكيان العنصري العدواني؟ ألم يكونوا يعادون اليهود ويضطهدونهم ويشردونهم, من قبل, بسبب اعتقادهم بأنهم هم الذين صلبوا المسيح عيسى بن مريم, عليه السلام؟ لماذا تصالحت معهم الكنيسة الحالية, وبرأتهم من كل ذنب؟ بل لماذا تصالحت مع الصهاينة, ولم تتصالح من قبل مع اليهود؟ الجواب واضح كل الوضوح, وهو أن الغرب وكنيسته, قد أعلنوا وحدتهم التي لا تنفصم مع الصهاينة, وليس مع اليهود, لأنهم إنما خلقوا هذا الكيان العدواني من أجل خدمة أهدافهم الاستعمارية الاستغلالية في المنطقة, وأنابوه عنهم في ممارسة العدوان, وتكريس السيطرة على المنطقة العربية والإسلامية, لأغراض شتى تتمحور حول المصالح المادية والمعنوية للغرب الاستعماري, ومما يؤسف له شديد الأسف أن الكنيسة عموما والكاثوليكية خصوصا, قد قامت بدور مشين في مؤازرة الاستعمار مؤازرة تامة, وموقف بابا الفاتكان ليس سوى مواصلة لدور الكنيسة الاستعماري, ومن نسي منا هذا الدور, فليتذكر مجهودات لا فيجري ورفقاؤه في الدعم القوي للاستعمار الفرنسي الاستيطاني المتوحش في الجزائر, وزيارة قداسة البابا, تصب بامتياز في هذا الرافد البغيض, لكننا نقول لا غالب إلا الله, وسوف يعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون, ولله الأمر من قبل ومن بعد.

ليست هناك تعليقات: