الأربعاء، 13 مايو 2009

البابا والمحرقة

البابا والمحرقة وشاليط

قال الفاتكان إن زيارة البابا ليست سياسية, فهو يزور الأراضي المقدسة بصفته رئيس الكنيسة الكاثلوكية، وليس بصفته رئيس دولة الفاتكان. بينما الأمور على الأرض تجري عكس هذا تماما، فالبابا يزور أو يركز زيارته وتصريحاته على قضايا سياسية بحتة, أما المعالم الدينية فيمر بها مرور الكرام, دون تسجيل أي موقف إنساني يعبر عن المرتبة الدينية الرفيعة لقداسة البابا, وعن الروح الدينية التي تأبي الظلم، وتناصر المظلوم, لقد جدد البابا الاعتراف بالمحرقة اليهودية, وزار النصب الممثل لها, كما اجتمع رفقة الرئيس الصهيوني بعائلة الجندي الأسير لدى حماس "جلعاد شاليط", ولم يفكر إطلاقا في زيارة المحرقة الحقيقية التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها, محرقة غزة التي لا زالت نيرانها مشتعلة, ولا زال ضحاياها يعانون الأمرين, إن قداسته لم يلفظ كلمة واحدة عن الإبادة والدمار التي لحقت بغزة منذ شهور قليلة, وذهب يؤكد محرقة مثيرة للجدل, يزعم الصهاينة أنها وقعت قبل أكثر من ستين عاما, وهي محل شكوك حقيقية, لاسيما وأن الصهاينة قد اتخذوا منها سجلا تجاريا, يجنون من ورائه فوائد مادية ومعنوية ضخمة, هل ضحايا المحرقة إن صح شيء منها بشر, وشهداء غزة ليسوا من بني الآدميين؟ ماذا يعني هذا التجاهل التام لهذا الأمر الخطير, من قِبل البابا؟ إنه أمر يسجل موقفا سياسيا شنيعا, لم يقفه حتى أكبر المتعصبين من ساسة الغرب, فليس بالإمكان أن يمر أي مسؤول مهما كان ميدان مسؤوليته على المنطقة, دون أن يسجل تعليقا على حرب غزة الظالمة, حتى ولو تحيز للجانب الصهيوني المعتدي, أما أن يأتي قداسة البابا إلى فلسطين المحتلة حاملا التأييد المطلق للعصابة الصهيونية, ومتجاهلا تماما لأبشع جريمة معاصرة اقرفتها في غزة الجريحة, فهذا يسيء إلى البابا نفسه وإلى الفاتكان وإلى الكنيسة الكاثوليكية إساءة كبرى, وياليتك يا بنديكت لم تأت أصلا لتترك صورتك – رغم إساءاتك السابقة – مقبولة نوعا ما, لدى العرب. فما معنى تأكيدك للاعتراف بالمحرقة؟ مما يؤجج الشكوك حولها, نظرا لموقفك المعادي بالأفعال والوقائع الملموسة للقضية الفلسطينية والعربية, ونظرا لإساءتك السابقة لخير البشر محمد بن عبد الله, عليه أفضل الصلوات وأزكى التسليم, دون أن تعتذر عن ذلك للمسلمين, ومن هنا فإن ما تعترف به يكون عكسه هو الصحيح, ما دمت منحازا للطرف الظالم المتجبر مصاص الدماء, دماء الأطفال في غزة مؤخرا. أسير واحد يا صاحب القداسة, يثير اهتمامك إلى درجة زيارة أسرته, وإحدى عشر ألف أسير فلسطيني بريء, أو في أسوأ الأحوال- في نظرك- مقاوم للاحتلال الغاصب, لا يستحقون منك كلمة واحدة منصفة ورحيمة؟ ثم أكثر من هذا النواب المنتخبون, أعضاء مجلس التشريع الفلسطيني, الذي اعترف الغرب كله بنزاهة انتخابهم, هؤلاء اعتقلهم الاحتلال الغاشم كرد فعل على أسر حماس لشاليط العظيم، هؤلاء المظلومون ألا يستحقون ولو إشارة, مجرد إشارة غير مباشرة منك يا قداسة البابا؟ وأكثر أكثر أكثر من هذا, رئيس المجلس التشريعي نفسه, الرجل المتقدم في السن والذي يعاني المرض, هو ذاته كان ولا زال من بين المعتقلين بسبب أسر شاليط. هذا لايلفت انتباهك, ولا يستدعي منك الذكر مجرد الذكر وليس النصرة أو الاستنكار؟ إذن أنت يا قداسة البابا محل شبهة, ولا يمكن لك بعد اليوم أن تتمتع بالثقة ومظنة القدوة الحسنة, لأنك وقفت باختيارك الحر, ومع سبق الإصرار والترصد مع الظالم، مع المحتل, مع من يمارس الإبادة والتدمير, كما لم يمارسه أحد قط, في عصر الناس هذا, إنك تناصر أكبر عصابة إرهابية مجرمة في عالم اليوم, مما يجعلك تفقد الاحترام لدى كل ذي عقل وضمير وذرة من الإيمان بالإنسانية, وتلك خسارة كبيرة تلحقها يا صاحب القداسة بنفسك وبكنيستك الكاثوليكية وبدولتك الفاتيكانية وبالجانب الروحي في الغرب كله, فياليتك لم تأت, ولم تسبب هذه الخسائر الفادحة لملتك ولشخصك, الذي كان من المفروض أن يكون فوق الشبهات, وإذا بحقدك الصليبي العنصري, يذهب بك بعيدا, فتدعم بكل ما أوتيت من قوة, أكبر عصابة إجرامية على وجه الأرض, وتكون بذلك قد ألحقت الضرر الفادح بها, لأنه لا أحد في الغرب قبل الشرق وغيرهما من الجهات الأربعة, يشك في عدالة القضية الفلسطينية, وفي إجرام العصابة الصهيونية, ومن ثم فإنك قد ألحقت الضرر الجسيم برمزيتك الروحية, ومكانتك السامية في مجتمعك الغربي عامة والكاثوليكي خاصة, والسبب هو الحقد الصليبي العنصري, وهو ما يمكن أن يفهم من متطرف, أما ما لا يمكن هضمه, فهو خدمة رجل الدين الأول في الغرب للاستعمار, بهذه الصورة المفضوحة, التي تتجاوز مواقف أكبر المتطرفين من ساسة الغرب, مثل سيء الذكر بوش, إنك قد وضعت نفسك وملتك في سياق مقولة: يفعل الجاهل بنفسه, ما لا يفعله العدو بعدوه. ويا للعجب العجاب, لكن فيم العجب, وقد خسرت الكنيسة كل أتباعها تقريبا في الغرب نفسه, بسبب مواقف من هذا القبيل, تدعو إلى النفور والاشمئزاز, ولم تنفعها دروس الماضي القاسية, حيث راحت تفقد نفوذها تباعا, ولم يعد لها اليوم سوى جانب رمزي باهت, لا يقدم ولا يؤخر في شيء, ولم يبق لها أي ذرة من النفوذ في مجتمعاتها الغربية, ذلك أن مثل هذه المواقف لا يمكن أن تؤدي إلا إلى مثل هذا المصير البائس, منذ محاكم التفتيش سيئة الذكر, ومن ممارساتها الشنيعة إجبار العلامة "غاليليو" على الاعتراف بالخطأ, وطلب المغفرة عن ذنبه الكبير, عندما اكتشف وصرح بأن الأرض تدور, فاعترف المسكين تجنبا لحبل المشنقة, وخرج من المحكمة يهذي ذهولا ورعبا, ويتمتم بينه وبين نفسه, حتى لا يسمعه أحد, ويلتف من حول رقبته حبل المشنقة, قائلا: " ومع ذلك فهي تدور", موقف الكنيسة المخزي هذا في وجه التطور العلمي, وطغيانها السياسي, هو المسؤول عن اتجاه الغرب إلى تشييد الحضارة المعاصرة عرجاء على رجل واحدة هي المادة, ذلك أنه كان بين خيارين اثنين, إما أن يهمش الكنيسة وينفيها عن أي تطور هام للمجتمع, لأنها تقف ضده ولا أمل في تراجعها عن ضلالها, وإما أن يستسلم لها ويقضي على كل أمل في التقدم والازدهار, فكان الاختيار بل الاضطرار إلى الذهاب إلى تشييد الحضارة المعاصرة في غياب تام للكنيسة, وما ترتب عن ذلك من حضارة مادية بحتة, يقاسي من ويلاتها العالم كله الآن, وتهدد الجنس البشري في كل لحظة بالفناء, لأنها ذهبت بعيدا في ماديتها, بسبب غياب الكنيسة عن حركة التحضر المعاصر, وأنتجت من بين ما أنتجت أسلحة دمار شامل, كافية لتدمير الكوكب الأرضي عشرات المرات, وهي في أيدي غير أمينة لدى إنسان غير متوازن, وليس في حوزته أي رصيد روحي, ومن ثم فهو مهيأ في كل وقت لارتكاب حماقة إبادة البشرية جمعاء. هذا المصير الأسود الذي قادت الحضارة الغربية الإنسانية المعاصرة إليه, تعود مسؤوليته كاملة إلى عزل الكنيسة اضطرارا, بسبب مواقفها المعادية للعلم والمعرفة والتطور, وها هو البابا يكرر أثناء هذه الزيارة الغريبة لفلسطين أرض المقدسات والرسالات, نفس المواقف, ويسبب خسارة جديدة للجانب الروحي الباهت أصلا في الغرب. وهكذا يكون الإصرار على الخطأ وعدم الاعتبار بتجارب الماضي القريب والبعيد, الماضي الاستعماري, والماضي الكنسي, حيث فقدت الكنيسة مكانتها لدى المجتمعات الغربية قبل غيرها, وفي هذه الزيارة يكون قداسة البابا قد أضاف إلى تلك الخسائر الفادحة الشيء الكثير, خاصة في نفوس الفلسطينيين والعرب والمسلمين, وفي نفوس كل محبي الحرية والعدل والسلام في العالم, وإنه لبلاء أعظم أن يقع شخص في مستوى قيادي روحي, بل في قمة هرم تلك القيادات, في هذا التهافت الذي لن يؤدي إلى زيادة الطين بلة على كل المستويات, ويا ليتك يا بندكت, لو بقيت قابعا في زاويتك البائسة في الفاتكان, ولم تأت إلى الأرض المقدسة, لتساهم في تعذيب الإنسانية المعاصرة, أكثر مما هي مسحوقة ومنكل بها من قبل الغرب السياسي والاقتصادي, فتذهب أنت إلى ما لم تستطع بلوغه قيادات السياسة والاقتصاد, وأنت الزعيم الروحي الذي كان ينتظر منه بصيص من الأمل, شيء من الشفقة يا قداسة البابا للجرحى واليتامى والبؤساء والأسرى, فإذا بك تقطع كل خيوط الأمل, وتسقط نفسك ورمزيتك من كل حساب, وتعلن عن حاجتك, أكثر من كل الناس إلى الهداية والوعظ والتنوير. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

ليست هناك تعليقات: