الاثنين، 11 أبريل 2011

نقاش عام حول الثورة الشعبية الديمقراطية العربية(2)


تابع

نقاش عام حول الثورة الشعبية الديمقراطية العربية

د.إبراهيم أبرش


الجزء الثاني


الفصل الثاني

سسيولوجيا الثورة في العالم العربي


الثورة كحدث سياسي واجتماعي وثقافي يمنحها خصوصية ،وحيث لا مجتمع يتطابق مع مجتمع آخر فلا يجب أن نتصور ثورة تتشابه تمام التشابه مع ثورة أخرى .صحيح أن الفقر والبطالة من أهم أسباب الثورات ،ولكن الفقر والبطالة لا يشكلا دافعا للثورة إلا إذا أحس الناس بأنهم فقراء وان هناك أغنياء يستغلونهم وهنا يأتي دور الثقافة السياسية والوعي السياسي،أيضا سمعنا من وصف الثورة التونسية والثورة المصرية بأنها ثورة الفيسبوك والفضائيات وفي هذا تقليل من شأن الثورة ،لا شك ان تقنيات التواصل الحديثة سهلت الأمر على الشعب وعلى الثوار لتواصل أسرع وأوسع بعيدا عن رقابة السلطة ،ولكن تقنيات الاتصال الحديثة موجودة في كثير من البلدان وبنسبة انتشار أكثر من مصر وتونس ومع ذلك لم تحدث ثورة .
ما يجري في العالم العربي من ثورات أو إرهاصات ثورات يحتاج لمزيد من الاهتمام والدراسة ،فثورات اليوم ليست ثورات الأمس ،وثقافة الخضوع والطاعة التي تنسب للمجتمعات العربية الإسلامية يبدو إنها في طريق التلاشي،وثقافة الشباب أو جيل اليوم ليست ثقافة جيل الخمسينيات والستينيات .
أولا : في العالم العربي: (ثورات) بدون ثورة وانقلابات دون تغيير
عرف العرب في تاريخهم الحديث مصطلح الثورة في بداية القرن العشرين حيث أطلق أسم (الثورة العربية الكبرى) على الحركة السياسية والعسكرية التي قادها الشريف حسين والي مكة عام 1915 ضد الخلافة العثمانية في تحالف مع بريطانيا التي كانت تخوض آنذاك حربا ضد الدولة العثمانية .إلا أن هذه (الثورة) أجهضتها وتآمرت عليها بريطانيا حليفة الشريف حسين من خلال اتفاقات سايكس – بيكو 1916 و وعد بلفور 1917 ثم الاستعمار المباشر الذي اخذ اسم الانتداب. التجربة العربية مع الثورة ما بعد الاستقلال لم تكن موفقة كثيرا حتى أن قطاعات كبيرة من المجتمعات العربية شعرت بأنه غرر بها من طرف من قاموا بالثورات والانقلابات وباتت تحن لعهد الملكية لما كان يوفره من حرية واستقرار عير متوفرين في ظل أنظمة الثورة،وبات الجمهور يتساءل عن جدوى قيام الثورات ضد الأنظمة الملكية ما دامت أحوالهم لم تتغير كثيرا وما دام (الثوار) يفكرون بالتوريث لأبنائهم.
غالبية (الثورات) التي قام بها عسكريون كانت انقلابات فوقية لم تشارك الجماهير في حدوثها ولم تتحسن حياتهم كثيرا بعد قيامها.بعض المجتمعات العربية حكمها منذ الاستقلال حتى اليوم أنظمة حكم كلها جاءت عن طريق انقلابات أطلق عليها أسم الثورة ولم يتغير حال الشعب كثيرا إلا شكليا حيث يتم الانتقال أحيانا من النظام الملكي للنظام الجمهوري على مستوى المسمى والعلم والنشيد الوطني ،ويتم تحويل القصر الملكي لقصر رئاسي، وتحويل الحرس الملكي إلى حرس جمهوري،، ويتم إحلال نخبة بنخبة لا تقل فسادا عن سابقتها وإحلال أجهزة قمعية بأجهزة أكثر قمعا تحد من حرية الشعب باسم الثورة والمصلحة الوطنية ،المصلحة الوطنية كما يراها النظام وليس المصلحة الوطنية كما يراها الشعب .لم يشهد أي نظام من أنظمة الثورة تداولا على السلطة لا على مستوى الحزب الحاكم ولا على مستوى الرئيس وفي بعض الأنظمة تحول القائد الثوري إلى أكثر من ملك سواء على المستوى البروتوكولي أو على مستوى الترف والبذخ أو بالنسبة للرغبة بتوريث السلطة للأبناء.
لا يعني ما سبق التقليل من أهمية الهبات وحتى الانقلابات العسكرية أو تحميل الفكر العربي الثوري والقومي وزر مرحلة بكاملها . لا شك بوجود أمور إيجابية لبعض أنظمة الثورة والتقدمية وخصوصا ثورة يوليو 1952 في مصر، ولكن الخلل أن دعاة الثورة والثورية تعاملوا مع الثورة وكأنها حالة متواصلة غير مميزين ما بين الثورة كأداة ونهج لهدم أنظمة فاسدة من جانب ومرحلة البناء التي تحتاج إلى فكر وممارسات ليست بالضرورة هي فكر وممارسات مرحلة التهيئة للثورة والقيام بها من جانب آخر. الثورة مرحلة حيث لا يمكن أن يستمر شعب في حالة ثورة مستمرة ،مرحلة تتميز بدرجة عالية من العنف واستنفاذ الجهد الشعبي ورفع الشعارات الكبيرة لأنها وضع استثنائي لتحقيق غرض هو بالأساس إسقاط أو تغيير وضع قائم لا يرضى عنه الشعب ،هدفها الأساسي توظيف حالة التذمر الشعبي وحالة الكراهية والفقر والكبت التي تعاني منها الجماهير لتغيير وتدمير سبب شقاء الشعب أو من يعتبرهم قادة الثورة السبب ،الثورة في البداية تتعامل مع عواطف الجماهير أكثر مما تتعامل مع عقولهم ،ولكن لا يمكن للشعب أن يستمر في حالة ثورة مستمرة ، كل (الثورات )العربية نجحت في عملية الهدم لأنها عملية سهلة قد تقتصر على انقلاب عسكري أو اغتيال الملك أو الرئيس ثم يقال لقد نجحت الثورة -غالبية ما نسميها ثورات في مجتمعاتنا العربية هي في الحقيقة انقلابات أو مؤامرات عسكرية لان الشعب لا يعلم بـ (الثورة ) إلا بعد حدوث الانقلاب وتغيير نظام الحكم أو رأس النظام فقط وإذاعة البيان الأول عبر الراديو أو التلفزيون.
سواء كانت ثورة أو انتفاضة أو انقلابا فإنها في العالم العربي لم تكن واضحة من حيث حمولتها الطبقية باستثناء ثورة يوليو 52 في مصر التي رفعت شعارات القضاء على الإقطاع وأعادت الاعتبار لطبقة العمال والفلاحين والبرجوازية الصغيرة .الشعب كان يريد يريد التغيير ولكنه يريده تغييرا ملموسا في مستوى المعيشة والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية وليس تغييرا في الشعارات والأيديولوجيات فقط ،وقد رأينا كيف أن إيديولوجيات ثورية وقومية واشتراكية أسست لأسوء أشكال الاستبداد. إن شعبا جائعا فقيرا مهانا متخلفا لا يحتاج إلى كثير جهد حتى يَقذف نفسه في آتون الثورة ،إنه في حالة ثورة مستمرة حتى ضد نفسه ،وكم هم واهمون ومدعون أولئك الذين ينسبون إلى أنفسهم صفات الذكاء والعبقرية والقيادة الحكيمة لأنهم استطاعوا أن يصلوا إلى السلطة عن طريق انقلاب عسكري موظفين خطاب الثورة والتغيير ،إن من يدعون لأنفسهم فضيلة قيادة ثورة ما هم إلا الأكثر ديماغوجية والأكثر قدرة على التلاعب بعواطف جموع جاهلة فقيرة مقهورة ،لأن السؤال الذي يفرض نفسه ماذا بعد الفوضى والانقلاب المُسمى ثورة ؟ ماذا بعد إسقاط النظام القديم ؟ من يبني المجتمع الجديد سياسة واقتصادا وثقافة بشكل أفضل من المجتمع القديم ؟.
مع تحولات النظام الدولي بعد انهيار المعسكر الاشتراكي[12]، تعرض الفكر الثوري والحركات الثورية لنكسة، حيث أن الثورات التي شهدها العالم وخصوصا خلال القرن العشرين، كانت تحضا بدعم المعسكر الاشتراكي وحركة التحرر العالمية وكانت ترفع شعارات معادية للرأسمالية والإمبريالية ولكن الديمقراطية لم تكن هدفا لها أو على الأقل لم تكن على سلم اهتماماتها ونلاحظ ذلك من خلال تشكيل الإنقلابيون (الثوار ) مجلس عسكري للحكم يسمى مجلس قيادة الثورة يحتكر السلطة ومهمشا القوى السياسية الأخرى. مع انهيار المعسكر الاشتراكي وتسيد الولايات المتحدة على العالم أصبح ما تبقى من الحركات الثورية تعيش أزمة كبيرة، فمثلا الثورة الفلسطينية التي لم تستطع أن تنجز مشروعها التحرري في ظل الثنائية القطبية تتعرض اليوم لتحديات كبيرة وهي تواجه إسرائيل من جانب والولايات المتحدة من جانب آخر. ومن جهة أخرى فإن تراجع الأيدلوجية الثورية الاشتراكية والقومية أفسح المجال لحركات ثورية بمحتوى ديني، وهذا حال حركة طالبان الأفغانية وتنظيم القاعدة بقيادة أسامة أبن لادن والثورة الإيرانية بقيادة الخميني نهاية السبعينيات، وحزب الله في لبنان وحماس وحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين.بالرغم من أن البعض زعم بأن انهيار المعسكر الاشتراكي سيؤدي لنهاية الحركات الثورية وكل النظم المغايرة للرأسمالية، وهو ما وصفه فرانسيس فوكوياما صاحب هذا الطرح ب (نهاية التاريخ)، إلا أن منطق الأمور والطبيعة الإنسانية يؤكدا بأنه حيث يكون ظلم لا بد أن تكون ثورات وحروب بغض النظر عن المحتوى الإيديولوجي لهذه الثورات، وإن غابت الأسباب الأيديولوجية للثورة فستكون أسبابها اقتصادية أو قومية أو دينية.
إلى ما قبل الثورة التونسية والمصرية كانت جماعات الإسلام السياسي على رأس القوى المطالبة بالتغيير وهي جماعات وإن كانت تلتقي مع الثورة من حيث الرغبة في التغيير إلا أن غالبيتها تقوم على أيديولوجية لا تعترف بالآخر ولا تؤمن بالوطنية والمشروع الوطني ولا بالديمقراطية ، كما تستعمل أدوات عنيفة ودموية أحيانا، أيضا تفتقر لرؤية حضارية وواقعية لما بعد هزيمة الأنظمة القائمة.ومع ذلك فقد نجحت بعض الحركات الإسلامية في إحداث ثورة متصالحة مع متطلبات الحضارة والحداثة كما جرى مع ثورة الخميني ضد سلطة الشاه في إيران،في المقابل فبعض هذه الحركات ما زالت تثير كثيرا من النقش حول جدواها للأمة وحتى للرسالة السماوية التي تدعي تمثيلها ،وهذا هو حال تنظيم القاعدة والجماعات الجهادية في أفغانستان وبعض الجماعات في العراق الجزائر والمغرب ومصر. ولكن مع الثورتين التونسية والمصرية انكشفت حقيقة آن غالبية الشعب ليس مع الإسلام السياسي،جماعات الإسلام السياسي ولأنها تملك قوة الإعلام والتنظيم ولديها إمكانيات مالية ضخمة وبسبب لجوئها للعنف فإن صوتها هو الأعلى ،قد تكون اكبر الأحزاب في بعض الدول العربية ولكنها لا تمثل الأغلبية بأي شكل من الأشكال ،قوتها وانتشارها يعودان لضعف الأحزاب السياسية الوطنية والقومية ولفقدان الأنظمة شرعيتها .
ثانيا: الثورتان التونسية والمصرية :ثورتان وطنيتان بمضامين ديمقراطية
لأنهما لم تكونا بقيادة الجيش ولا بقيادة أي حزب سياسي،فإن الحراك الشعبي الذي جرى في تونس ومصر تحول لثورة حقيقية .ما جرى في تونس ومصر استحضر خطاب وفعل الثورة في العالم العربي، إلا أن هذا الاستحضار جاء في زمن مغاير وظروف مختلفة عما كانت عليه خلال العقود الماضية.سابقا كان كل حديث عن الثورة وكل فعل ثوري موجها ضد الاستعمار أو ضد أنظمة رجعية يمينية أو دكتاتورية استبدادية لا تؤمن بالديمقراطية ولا تأخذ بها بجدية،أما اليوم فالتحركات الشعبية تطالب بالديمقراطية وتجري في مواجهة أنظمة تقول بالديمقراطية وتزعم بأنها تستمد شرعيتها من صناديق الانتخابات ،سابقا كانت نخبة سياسية أو عسكرية تقوم بتحريض الجماهير على الثورة أو تنب عن الشعب في مواجهة النظام القائم أما اليوم فالشعب يتحرك بعيدا عن الأحزاب التقليدية والتاريخية،بل تضع الثورة الأحزاب في حالة من الإرباك مما يدفعها للهث لركوب موجة الثورة و محاولة جني ثمارها لصالحها.والجديد أيضا أن جيل الشباب على رأس الحراك المطالب بالتغيير ،الثقافة الديمقراطية مكنت الشباب من أخذ دور الريادية والثورة المعلوماتية وخصوصا الانترنت والفضائيات مكنت الشباب ومجمل الجماهير من التواصل مع بعضهم وتوجيه مجريات الثورة دون الحاجة للتنظيمات الحزبية التي كانت تلعب هذا الدور،أيضا العولمة الثقافية وتبني العالم أجمعه لمنظومة حقوق الإنسان وقيم وثقافة الديمقراطية جعل مطالب الشباب مفهومة ومقبولة وبالتالي تجد تجاوبا وتأييدا من العالم الخارجي.
ما جرى في تونس ومصر من أحداث دشن مرحة ثورية جديدة وهي الثورة الشعبية الديمقراطية [13].الثورة التونسية والمصرية أعادتا الاعتبار للوطن والوطنية .فعندما ناضلت الجماهير العربية ضد الاستعمار وضد أنظمة القمع والاستبداد، لم يكن واردا أن تُصادر نضالاتها ومعاناتها وتضحياتها ويتم تجييرها لنخب وأحزاب جديدة تتسيد عليها . ناضلت الجماهير من أجل استقلال الوطن وحريته باعتبار الوطن الفضاء الذي يوفر لهم الحرية والكرامة ،وعندما منحت الجماهير ولاءها للحركات والأحزاب التي قادت الثورة ضد الاحتلال إنما مراهنة منها على أن هذه الحركات ستواصل نضالها بعد الاستقلال لقيام وطن حر مستقل يوفر للمواطنين الحياة الكريمة ويقيم عدالة اجتماعية ،ما لم يخطر على بال الجماهير أن تتحول السلطة (الوطنية ) ،التي قامت بعد الاستقلال أو بعد إسقاط الأنظمة الملكية والرجعية، لهدف بحد ذاته وأن يتحول قادة الثورة لنخبة حكم تستبد بالسلطة ويورث القائد الثوري الحكم لأبنائه من بعده،أيضا لم يكن في الحسبان أن تؤدي الديمقراطية إلى تكريس سيطرة الحزب المهيمن والرئيس الأوحد .
في المجتمعات الديمقراطية العقلانية وحيث أن من يتبوأ مواقع السلطة منتخبون من المجتمع ويعبرون عن رغباته وتطلعاته ويستطيع الشعب التحكم في ممارساتهم ومراقبتهم وتغييرها بالانتخابات وبضغط الرأي العام الخ ،فإن علاقة تصالحية تربط ما بين السلطة والمجتمع وما بين السلطة والوطن،وبالتالي فإن الأحزاب والقوى التي تتنافس أو تتصارع للوصول إلى السلطة لا تخرج عن إطار المصلحة الوطنية حيث يبقى التنافس والصراع ضمن ثوابت ومرجعيات الأمة ،صحيح أن السلطة تمنح امتيازات وتحقق مصالح للنخب الحاكمة ولا تخلو أحيانا من فساد واستغلال نفوذ، ولكن هذه النخب في المقابل تعمل من أجل المصلحة الوطنية أو الوطن بما هو المشترك بين كل مكونات المجتمع من أفراد وجماعات وثقافات فرعية وأحزاب سياسية.[14]
أما في العالم العربي، فقد فهم البعض أو أراد أن يُفهم الشعب أنه بالاستقلال وقيام الدولة انتهى النضال والعمل من اجل الوطن وان المرحلة مرحلة جني ثمار الاستقلال من خلال مغانم وامتيازات السلطة ،نسى وتناسى هؤلاء أن النضال الحقيقي يبدأ ما بعد الاستقلال ،ما بعد الاستقلال يبدأ الجهاد الأكبر أو النضال الحقيقي لتوفير الحياة الكريمة للمواطن الذي لم يكن هدفه من الانخراط في حركة التحرر الوطني وفي الثورة أن يكون له علم ونشيد وجيش وسجن وطني فقط ،بل ناضل من اجل الحرية والحياة الكريمة التي كان يفتقدها في ظل الاستعمار وفي ظل الأنظمة الاستبدادية المأجورة .
منذ الاستقلال ونحن نشهد صراعا على السلطة ،غالبا ،إن لم يكن كليا، صراعا دمويا غير ديمقراطي عبر الانقلابات التي سُميت ثورات وعبر حروب أهلية أو انتخابات شكلية لا علاقة لها بالممارسة الديمقراطية الحقيقية،وكل ذلك كان وما زال يتم باسم الوطن والمصلحة الوطنية أو باسم الدين ،وحتى اليوم، فالذين يتمسكون بالسلطة يستقوون بالأجهزة الأمنية والجيش ،والذين يتطلعون إلى السلطة عبر العنف السياسي أو الجهادي ،وغالبية الذين يتطلعون للسلطة ويناضلون للوصول إليها موظِفِين خطاب الثورية والوطنية أو خطاب الديمقراطية ،إنما يتطلعون للوصول للسلطة كهدف بحد ذاتها.
هذا ما لمسناه خلال العقود الماضية حيث أن من يصل للسلطة ينسى كل شعاراته الكبيرة عن الوطن والوطنية ويصبح هدفه الحفاظ على السلطة والتمتع بامتيازاتها على حساب الوطن كفضاء للحرية والحياة الكريمة والعدالة الاجتماعية لكل المواطنين،وهنا نلاحظ كيف أن تضخم السلطة في العالم العربي يتواكب مع انهيار الوطن والدولة الوطنية ،نلاحظ أن نخب السلطة تزداد ثراء وفسادا ،فيما الوطن ينهار وتصبح الدولة الوطنية محل تساؤل ،من الصومال إلى السودان واليمن والعراق، حتى مصر والجزائر ولبنان ليسوا بعيدين عن أزمة الدولة الوطنية.فهل مفهوم الوطن عند الحوثيين في اليمن هو نفسه عند الحراك الجنوبي أو عند أحزاب السلطة؟هل مفهوم الوطن عند شيعة العراق نفسه عند البعثيين المُبعدين عن السلطة والسياسة ؟هل مفهوم الوطن عند السلفية الجهادية في الجزائر نفسه عند جبهة تحرير الجزائر؟هل مفهوم الوطن عند حركة حماس نفسه عند حركة فتح وسلام فياض؟هل مفهوم الوطن عند تنظيم القاعدة في أي بلد يتواجد فيه نفسه مفهوم الوطن عند السلطة وأحزابها ونخبها؟الخ.
السلطة في العالم العربي حلت محل الوطن، وأصبح نضال غالبية الأحزاب والنخب ليس من اجل الوطن بل من أجل السلطة،فليس بعد الوصول للسلطة من جهد إلا للحفاظ عليها.السلطة كأشخاص ومؤسسات وعلاقات سلطوية بين الحاكمين والمحكومين ليست الوطن، بل أداة تنفيذية لاستقلال الوطن إن كان محتلا ولبنائه إن كان مستقلا ولحمايته إن كان مهددا، ذلك أن هدف كل سلطة سياسية في أي مجتمع هو تأمين المجتمع من المخاطر الخارجية وتحقيق الوفاق والانسجام الداخلي بين مكونات المجتمع،كما أن السلطة أحد مكونات الدولة بالإضافة إلى الشعب والإقليم .وفي جميع الحالات وبغض النظر عن مصادر شرعية السلطة السياسية القائمة يجب أن تكون العلاقة واضحة ما بين السلطة ذات السيادة والدولة والمجتمع ،والانسجام بين هذه المكونات الثلاثة يُنتج ما يسمى الوطن كحاضنة مادية ومعنوية للمواطن وكانتماء وشعور يحمله معه المواطن أينما حل وارتحل.السلطة وحدها ليست وطنا والدولة لوحدها ليست وطنا ،فالمواطن يخضع لهما قانونيا ولكنهما لا تشكلا انتماء وجدانيا ،وحتى المجتمع قد لا يشكل وطنا لأبنائه في بعض الحالات فكثير من الأفراد يشعرون بأنهم ساكنة وليسوا مواطنين حيث ينتابهم إحساس بالاغتراب الاجتماعي والسياسي في مجتمعاتهم،والتطلع للهجرة للخارج وخصوصا بالنسبة للمثقفين والأدمغة خير دليل على ذلك.

عندما نتحدث عن السلطة السياسية في الدول الديمقراطية إنما نتحدث عن أجهزة ومؤسسات عسكرية أو مدنية بيروقراطية ثابتة لا تتغير مع كل رئيس أو حزب جديد،وعن نخبة سياسية حاكمة تعمل بتكليف من الشعب لفترة زمنية ثم تتغير لتحل محلها نخبة جديدة ،دورة النخبة أو التداول على السلطة لا يسمح لمن هم في السلطة بترسيخ علاقات مصلحية دائمة حيث يوجد فصل ما بين السلطة والثروة،وبالتالي فإن أصحاب الثروات في الغرب ليسوا أصحاب السلطة السياسية بل من نخب اجتماعية واقتصادية [15]،أما في عالمنا العربي وحيث لا يوجد تداول على السلطة إلا ضمن نطاق ضيق ،وحيث أن النخب الحاكمة تستمر لعقود فإن اقترانا يحدث ما بين السلطة والثروة ،ولتحمي السلطة المقترنة بالثروة نفسها تلجأ لإفساد كبار رجال الجيش والأجهزة الأمنية وقادة الرأي العام من قادة أحزاب ومؤسسات مجتمع مدني ورؤساء تحرير أهم الصحف ورجال دين الخ ،بالمال والامتيازات ،كما تسعى لإنتاج نخب جديدة مستفيدة من السلطة القائمة لحمايتها وفي كثير من الحالات تكون نخب عائلية أو طائفية أو إثنية،وتصبح علاقة اعتمادية متبادلة ما بين الطرفين،ويصبح هدف السلطة والنخب التابعة ليس مصلحة الوطن بل الحفاظ على ما بيدها من سلطة لأن السلطة هي التي تضمن حفاظها على مصالحها،وهذه الأطراف مستعدة للدخول بحرب أهلية ليس دفاعا عن الوطن بل دفاعا عن مصالحها ،أو دفاعا عن وطن تضع السلطة مواصفاته ومرتكزاته بحيث يتماها مع السلطة وبالتالي يصبح المساس بالسلطة مساسا وتهديدا لهذا الوطن ،وطن السلطة وليس وطن الشعب.

هذا التعارض والفصل ما بين السلطة والوطن الحقيقي,وطن كل الأمة، وتحول السلطة إلى هدف بحد ذاته لدى غالبية القوى التي تتصارع عليها سواء بوسائل ديمقراطية أو غير ديمقراطية،بل وتحولها لعبء على الوطن ،أحيا مجددا الحديث عن المشروع الوطني في العالم العربي ،ليس فقط في الدول الخاضعة للاحتلال – فلسطين والعراق- بل في بقية الدول العربية التي يُفترض أنها انتقلت من مرحلة المشروع الوطني لمرحلة الدولة الوطنية،حيث المُلاحظ ان الدول العربية المستقلة لديها أزمة دولة وأزمة علاقة بين الدولة والمجتمع وبين السلطة والمجتمع وأزمة بين مكونات المجتمع الإثنية والطائفية،بمعنى أنها تعاني أزمة وجودية ،وهذا ما يتطلب عقدا اجتماعيا جديدا يؤسس لمشروع وطني جديد يقوم على أسس ديمقراطية،هذا المشروع الوطني الديمقراطي يحتاج لنخب جديدة وقوى سياسية جديدة نأمل أن يكون الشباب الذين خرجوا في ثورة عارمة في تونس ومصر نواة هذه النخبة.
ثالثا :الديمقراطية الشكلانية تكشف فساد النظام السياسي وأزمة الدولة الوطنية
لا يمكن الفصل ما بين عودة الثورة فكرا ونهجا إلى المشهد السياسي العربي وأزمة الانتقال الديمقراطي التي شهدها العالم العربي خلال العقود الثلاثة .الحديث عن الديمقراطية في العالم العربي تحتاج لمقاربة جديدة تؤسس على الواقع لا على الخطاب والنموذج الجاهز،والواقع يقول بأن التجارب الديمقراطية تحولت إلى أنظمة حكم وشعارات فضفاضة إن كانت تتضمن بعض مفردات الديمقراطية وثقافتها في بعض المجتمعات، إلا أنه يصعب القول بأنها أنظمة ديمقراطية.صحيح حدث حراك سياسي وتقدم نسبي في منظومة حقوق الإنسان وفي وعي المواطن بحقوقه،إلا أن هذا الحراك تعبير عن ألتوق إلى التغيير ورفض الاستبداد والقمع والسعي للحياة الكريمة بغض النظر إن كان النظام المُراد الوصول إليه مُهيكل حسب النظرية الديمقراطية كما هي عليه في النموذج الغربي أم لا. كل الأنظمة القائمة اليوم إما أن تصف نفسها بالأنظمة الديمقراطية أو بأنها تريد أن تكون ديمقراطية،ولكن على مستوى الواقع القائم سنجد أن أوجه التباعد ما بين هذه الأنظمة العربية التي تقول بأنها ديمقراطية والديمقراطية السائدة في الغرب فيما يتعلق بشكل النظام وآلية إدارته وطبيعة الثقافة السائدة فيه.فما الذي يجمع مثلا ما بين الديمقراطية في العراق وأفغانستان والديمقراطية في السويد؟وما الذي يجمع ما بين ديمقراطية الكويت أو مصر وديمقراطية فرنسا أو اليابان؟الخ .
زعم الأنظمة العربية بالأخذ بالديمقراطية لم يؤد لإحداث تغييرات بنيوية في ثقافة واقتصاد المجتمع ولم يؤد لإحلال علاقات ونخب وأفكار جديدة تمثل قطيعة مع مرحلة سابقة، لأن ولوج أنظمة الحكم العربية عالم الديمقراطية جاء نتيجة ضغوطات خارجية وإرادة نخب وجدت في الديمقراطية أيديولوجية جديدة يمكن توظيفها لاكتساب شرعية تعوضها عن أزمة شرعياتها التقليدية.في سعي الأنظمة لتطويع الديمقراطية بما يخدم مصالحها انكشفت أزمة الدولة حيث أدت هذه الديمقراطية لإحياء الطائفية والإثنية وتباعدت الشقة ما بين الحكام والمحكومين وما بين طبقات الشعب .
في السنوات الأخيرة طرأت متغيرات فرضت على الأنظمة العربية التعامل مع الاستحقاق الديمقراطي دون الإيمان بالديمقراطية،واهم هذه المتغيرات :-
1)انكشاف شرعية أنظمة الحكم بسبب تآكل شرعيتها التقليدية من دينية وثورية .
2) سقوط ذريعة رفض الديمقراطية وكبت الحريات حتى يمكن التفرغ لمواجهة إسرائيل ومواجهة المؤامرات الاستعمارية حيث باتت الأنظمة ملتزمة بإستراتيجية السلام مع إسرائيل وباتت واشنطن والغرب حلفاء وأصدقاء.
3) تلمس الجماهير خطاها على طريق الحرية والإدراك لحقيقة أوضاعها المتردية ويعود الفضل في ذلك لما راكمته الحركات التقدمية والديمقراطية الحقيقية طوال عقود وللفضائيات وشبكات الانترنيت وتقارير منظمات حقوق الإنسان.
4) خشية الأنظمة من وصول القوى الديمقراطية الحقيقية لسدة الحكم في وقت باتت المصالح الغربية في المنطقة متعاظمة بشكل غير مسبوق ومُهَددة في نفس الوقت من جماهير تعادي الغرب ومصالحه .
5) تزامن مأزق الأنظمة ورغبتها بتجديد شرعيتها مع تغيير في إستراتيجية الولايات المتحدة الأمريكية وقوى أوروبية في التعامل مع منطقة الشرق الأوسط والعالم العربي على وجه التحديد ،حيث وجدت هذه القوى أن الدعم المباشر للأنظمة والحكومات الاستبدادية يضر بمصالحها في المنطقة ومن هنا رأت أهمية الدخول للمنطقة من بوابة أخرى ،فبدأت بالحديث عن انتهاكات حقوق الإنسان وغياب الديمقراطية في الشرق الأوسط وخصوصا في العالم العربي مطالبة بتسريع الانتقال نحو الديمقراطية مع التركيز على العملية الانتخابية .لم يكن هدف واشنطن والغرب دمقرطة العالم العربي بل مواجهة المد الأصولي وحالة التمرد على الوجود الأمريكي في المنطقة وخصوصا بعد احتلال العراق ،وانحياز واشنطن لإسرائيل.
إن المدقق بواقع المشهد الديمقراطي في المجتمعات العربية سيلمس أن الجانب المؤسساتي الشكلاني للسلطة – وجود انتخابات ودستور ومجلس تشريعي ومنظومات قانونية تتحدث عن الحقوق والواجبات- والخطاب السياسي المدجج بشعارات الديمقراطية ،كان لها الغلبة في توصيف المشهد بالديمقراطي أكثر من توفر ثقافة الديمقراطية ومن انعكاس الديمقراطية حياة كريمة للمواطنين،وبالتالي فإن المقاربة الدستورانية القانونية لا تصلح للحكم إن كان توجد ديمقراطية أم لا. ما يجري من سلوكيات وأنماط تفكير وتطبيقات للديمقراطية يتطلب إعادة النظر سواء بمفهوم الحرية كشرط ضرورة لأي ممارسة ديمقراطية أو بالنسبة للديمقراطية كثقافة أو بالنسبة لعلاقة السلطة بالمعارضة وبالمثقفين وبالحريات بشكل عام وحتى بالنسبة لمقولة أن الشعب يريد الديمقراطية.
القول بإعادة النظر لا يعني التخلي عن الديمقراطية بل إعادة النظر بفهمنا وبممارستنا للديمقراطية والابتعاد عن محاولات استنساخ التجربة الغربية أو الجري وراء أوهام الدلالة اللغوية للكلمة،وأن نأخذ بعين الاعتبار التغيرات التي تطرأ على علاقة النظم السياسية بالخارج و بالمتغيرات التي تطرأ على المشهد الثقافي في مجتمعاتنا وخصوصا ظاهرة المد الأصولي والعنف السياسي و الإرهاب وبروز الجماعات الطائفية والإثنية ،التي كانت تشكل ثقافات فرعية غير مسيسة وبالتالي لم تكن حاضرة كقوى سياسية عندما بدأت النخب السياسية العربية تتعامل مع ظاهرة الديمقراطية قبل عدة عقود.
من خلال تجربة العقود الأربعة الماضية في البحث عن مخارج ديمقراطية لأزمات مجتمعنا العربي ،ومن خلال ما يجري على الأرض اليوم من حراك سياسي يستظل بظل شعارات الديمقراطية، أو ما يجري في فلسطين و العراق من إقامة أنظمة (ديمقراطية) في ظل الاحتلال وفي ظل وجود جماعات وشعب مسلح ،من خلال كل ذلك فأن الحاجة تدعو لإعادة النظر إما في مفهوم الديمقراطية المتعارف عليه أو في توصيف ما يجري بأنه تحول ديمقراطي.
إن سؤال: هل توجد ديمقراطية في العالم العربي أم لا ؟أصبح متجاوزا أو من الصعب الإجابة عليه انطلاقا من المقاييس والمؤشرات التقليدية حول وجود أو عدم وجود ديمقراطية. الديمقراطية الموجودة في غالبية الأنظمة العربية القائلة بها ليست تعبيرا عن إرادة الأمة بقدر ما هي استجابة-بالمفهوم الإيجابي والسلبي للاستجابة- لاشتراطات خارجية وتحديات داخلية ليست بالضرورة تعبيرا عن توفر ثقافة الديمقراطية،فقليلا ما نرى أو نسمع عن مظاهرات ومسيرات كبيرة للمطالبة بالديمقراطية – باستثناء ثورتي تونس ومصر- ،فيما تستطيع قوى اليسار أو الإسلامي السياسي إخراج مظاهرات مليونية لنصرة غزة أو العراق مثلا أو للتنديد بإهانة الرسول.باستثناء العربية السعودية وليبيا فإن كل الأنظمة العربية سواء كانت ملكية أم جمهورية ثورية أو عسكرية،غنية أم فقيرة... تصنف نفسها بأنها ديمقراطية أو تسير نحو الديمقراطية أو لا تعارض الانتقال الديمقراطي، وفي جميع الحالات سنجد ما يربط كل نظام سياسي بآلية ما أو مظهر ما من مظاهر الديمقراطية كوجود انتخابات أو دستور عصري أو مؤسسات تشريعية أو تعددية حزبية الخ ،ومع ذلك يبقى السؤال: أية ديمقراطية توجد في هذه الأنظمة.
قد نبدو مبالغين إن قلنا بان لكل نظام عربي تصوره وتطبيقه الخاص للديمقراطية وبعضها غير مسبوق تاريخيا ويعتبر اختراعا عربيا بجدارة -كالنظام القائم في ليبيا - إلا أن هذه المداخل لن تؤدي لديمقراطية حقيقية لأنه ليس واردا عند الأنظمة أن تؤسس ديمقراطية تؤدي للتداول السلمي على السلطة وإشراك الشعب في الحياة السياسية إشراكا فاعلا ومسئولا .أيضا يجب تجنب المبالغة في الحديث عن الديمقراطية في العالم العربي بشكل عام وكأن العالم العربي دولة واحدة أو مجتمع واحد.بعيدا عن الخطاب الأيديولوجي العروبي ومع عدم تجاهل وجود قواسم مشتركة كاللغة والدين وعادات وتقاليد،فإن الواقع يقول بوجود أثنين وعشرين نظاما وكيانا سياسيا لم تتشكل كلها ضمن نفس الشروط التاريخية والموضوعية،فلا يجوز أن نضع في سلة واحدة الدولة المصرية ذات الخمسة آلاف سنة من الوجود مع دولة الإمارات العربية ذات الأربعين سنة من العمر،كما لا يجوز وضع المغرب بتاريخه وخصوصيته الثقافية والسياسية مع لبنان بخصوصيته وشروط تشكله التاريخي،نفس الأمر بالنسبة لتونس والكويت أو الجزائر أو فلسطين الخ.
رابعا:انسحاق الديمقراطية ما بين مطرقة الأنظمة وسندان الإسلاموفوبيا
ما بين مطرقة السلطة وسندان جماعات إسلام سياسي أنتجت ظاهرة الإسلاموفوبيا، تم سحق الأوطان والقوى الديمقراطية الحقيقية في العالم العربي.انسحاق الأوطان التي تشكل فضاء للحرية والمساواة والعيش الكريم لكل مكونات الشعب دون تمييز طائفي أو عرقي،وانسحاق القوى التي ناضلت لعقود للانعتاق من ربقة الاستبداد والتخلف والمتطلعة للحداثة والتقدم واحترام حقوق الوطن والمواطن وتحويل الشعب من ساكنة ورعايا إلى مواطنين وتحويل الأرض التي يقيمون عليها من محل إقامة إلى وطن يفتخرون بالانتساب إليه والعيش فيه.
كل مراقب لأوضاع العالم العربي سيلاحظ ارتكاسة الفكر والواقع العربي من فكر يدعو للتقدم والتحرر والوحدة العربية إلى فكر طائفي وقبلي أو وطني مأزوم يجاهد للحفاظ على تماسك الدولة الوطنية حتى في ظل استبداد أنظمة الحكم القائمة ،هذه الأخيرة التي باتت تبرر استبدادها واستمرارها بالحكم بذريعة الحفاظ على الوحدة الوطنية ومواجهة المخططات الخارجية ومواجهة التطرف الديني!. في ظل ما يسمى بالانتقال الديمقراطي والانتخابات التي تحولت لأداة لشرعنة الطائفية والإثنية والاستبداد وتأكيد حضورها كحقيقة يجب التسليم بها أرتكس الواقع العربي لمزيد من الفقر وتدهور العدالة الاجتماعية و لحالة من الفتنة والطائفية والإثنية تتعايش بل تتعاظم.
المراقب للانتخابات التي جرت خلال العقدين الأخيرين سواء من حيث القوى المتصارعة على السلطة أو الفائزة في الانتخابات سيلمس ضعف حضور القوى السياسية – أحزاب وشخصيات- الوطنية والقومية التي كان لها دور الريادية في مواجهة تسلط الأنظمة ،حيث باتت الحياة السياسية اليوم شبه ثنائية قطبية ،النظام السياسي وحزبه ونخبه من جانب وجماعات الإسلام السياسي من جانب آخر،المراقب سيلمس ضعف الروح والفكرة الوطنية الجامعة عند الأطراف الكبرى المتصارعة على السلطة،الأمر الذي أدى لأن تفقد الأحزاب والحركات السياسية ثقة الجمهور بل بات الجمهور ينظر لها كعبء على الحالة الوطنية.
لم تكن الحياة السياسية العربية أرضا يبابا تسودها الدكتاتورية والاستبداد والجهل قبل ظهور جماعات الإسلام السياسي وصراعها مع أنظمة الحكم القائمة .لعقود والديمقراطيون الحقيقيون يناضلون بكل أشكال النضال ضد أنظمة الاستبداد بكل تلاوينها الرجعية اليمينية و(الثورية التقدمية )،من المغرب إلى مصر وسوريا والعراق ومن عُمان إلى السودان والصومال .ربما لم تكن الديمقراطية العنوان الأبرز للمناضلين الأوائل ،ولم تكن الانتخابات الوسيلة الوحيدة لمقارعة السلطة الحاكمة ولاختبار قوة الحضور الجماهيري، ولكن نضالاتهم كانت تصب في جوهر النضال الديمقراطي ما دامت من أجل الحرية وضد الاستبداد ،لقد سيِّروا المظاهرات وقاموا بالاعتصامات وحملوا السلاح أحيانا ودخلوا السجون والمعتقلات واستشهد كثيرون دفاعا عن كرامة وحرية الوطن والمواطن .خلال هذه المسيرة الطويلة الممتدة ما بعد الاستقلال مباشرة حتى نهاية الثمانينيات راكم المناضلون إنجازات مهمة حيث ساهمت في إثارة الرأي العام وخلقت حالة من الوعي الجماهيري دفعت الأنظمة لتخفيف قبضتها الأمنية و للتفكير بمصالحة قوى المعارضة ومحاولة استمالتها .خلال هذه المسيرة لم تكن جماعات الإسلام السياسي جزءا من الحركة النضالية الشعبية التقدمية والديمقراطية المتصادمة مع أنظمة القمع والاستبداد.بعض الجماعات الإسلامية كحزب التحرير وبعض فروع الإخوان المسلمين دخلت بمواجهات ساخنة مع أنظمة عربية ولكنها لم تكن تندرج ضمن النضال الديمقراطي بل كانت أقرب لمحاولات الانقلاب على السلطة للهيمنة عليها وتطبيق الإيديولوجية الدينية لهذه الجامعات وهي أيديولوجيا غير متصالحة مع الديمقراطية بل كانت آنذاك تنظر بريبة للديمقراطية و الديمقراطيين.
كانت نقاط التباعد ما بين جماعات الإسلام السياسي وأنظمة الحكم لا تقل عن نقاط التباعد بينها وبين القوى التقدمية والديمقراطية ،وفي كثير من الحالات كانت الجماعات الدينية تأخذ موقع المحايد المراقب لما يجري من تصادم بين الأنظمة ومعارضيها من السياسيين ،وبعضها كان اقرب لمواقف الأنظمة لأنها لم تكن تؤمن بالديمقراطية وثقافتها وأحيانا كانت تنظر للقوى الديمقراطية باعتبارها علمانية وكافرة ،وقد وظفت بعض الأنظمة جماعات إسلامية لمحاربة معارضيها التقدميين والديمقراطيين .
صحيح أن جماعات الإسلام السياسي وخصوصا الإخوان المسلمين واجهت في بعض المراحل الأنظمة وعانت من الأنظمة وكانت تريد تغيير الوضع القائم ولكن لم يكن واردا عندها تأسيس نظام ديمقراطي يؤمن بالمشاركة والتعددية السياسية ،كانت تريد إحلال استبداد أنظمة وضعية باستبداد أنظمة دينية،ومن هنا لاحظنا أن جماعات الإسلام السياسي لم تدخل في تحالفات ثابتة مع القوى السياسية الديمقراطية والتقدمية في أي دولة عربية،وكنا وما زلنا نسمع عن القوى الإسلامية والقوى الوطنية أو القومية ،ونسمع عن الصحف الإسلامية والصحف الوطنية والقومية ،لم يكن مفهوم الوطن والهوية والثقافة عند الجماعات الإسلامية يتوافق مع مفهومهم عند القوى الوطنية والقومية والتقدمية –ما لاحظناه أخيرا في مصر من تنسيق بين الأخوان المسلمين وقوى تقدمية ووطنية بعد الانتخابات لا يعدو كونه ردود فعل انفعالية على نتائج الانتخابات أكثر مما هي مؤشر على تحالف دائم -.
ما كان يبدو حراكا ديمقراطيا في العالم العربي كان يخفي دوافعا غير ديمقراطية عند القوى الرئيسة الكبرى في هذا الحراك ،حيث تم نزع راية النضال الديمقراطي ومصادرة الفكرة الديمقراطية المنبثقة من الإرادة الحرة للشعب بالتغيير الديمقراطي من يد الديمقراطيين الحقيقيين لتتسلمها أو تستلبها أطراف تقول بالديمقراطية ولا تؤمن بها . الديمقراطيون الحقيقيون في العالم العربي تمت محاصرتهم من ثلاثة قوى:أنظمة الحكم ونخبتها، جماعات إسلام سياسي لا تؤمن بالديمقراطية ،واشنطن ورؤيتها لديمقراطية تخدم سياسة ( الفوضى البناءة ) في المنطقة . لا شك أن الجماعات الإسلامية ليست على نفس الدرجة في اقترابها من الديمقراطية وبالتالي ليست على نفس الدرجة في صدقها بالدخول في العملية الانتخابية.بعض جماعات الإسلام السياسي وطَّنَت أيديولوجيتها الدينية وعقلنت خطابها بحيث بات أكثر تسامحا وقبولا بالآخر ،هذه الجماعات تقبل مبدأ الشراكة السياسية ومستعدة للعودة لصفوف المعارضة إن خسرت الانتخابات ،إلا أن جماعات أخرى دخلت الانتخابات بروح جهادية أو بعقلية الغزو والفتح،دخلت الانتخابات ليس إيمانا بالديمقراطية ولكن كوسيلة للسيطرة على السلطة بعد أن فشلت في الوصول إليها بوسائل أخرى،ولذلك نجد هذه الجماعات توظف كل ما لديها من إمكانيات مالية ولوجستية وخطاب ديني متشنج لكسب الانتخابات وفي حالة نجاحها لن تسمح بانتخابات أخرى.
ومع ذلك فإن ما وصلت إليه الأوضاع العربية من انسداد أفق على كافة المجالات وما وصلت إليه الأنظمة من ترهل ومن تباعد عن مصالح الجماهير الشعبية يتطلب إفساح المجال لكل القوى السياسية للمشاركة في الحياة السياسية لأنه لا يُعقل أن تكون شعوبنا عاقرا وغير قادرة على إنتاج قيادات جديدة ونخب جديدة ،فعقود من النضال السياسي متعدد الجبهات والانفتاح غير المسبوق على العالم الخارجي جعلت الجماهير العربية أكثر إدراكا ووعيا لمصالحها وحقوقها وأكثر جرأة على مقاومة الطغيان وما يجري في تونس والجزائر ومصر والسودان واليمن مؤشر على الثمن الذي يمكن أن تدفعه الأنظمة إن تجاهلت مصالح شعوبها وأعاقت الممارسة الديمقراطية الحقيقية وهو ثمن ستدفعه أيضا الدولة الوطنية ليس فقط كنظام حاكم بل كوجود .
صحيح أن خطاب وشعارات بعض جماعات الإسلام السياسي تثير القلق بل والرعب ،ولكن الغرب الاستعماري وأنظمة الحكم يضخموا وبشكل مبالغ فيه من خوف الجمهور من هذه الجماعات ليس دفاعا عن المصلحة الوطنية أو لان هذه الجماعات تشكل بالفعل تهديدا للمصلحة والوجود الوطني بل لخوف الأنظمة ونخبتها من فقدان مواقعها وامتيازاتها،كما أن الأنظمة توظف فزاعة الإسلام السياسي –الإسلاموفوبيا- لقطع الطريق حتى على القوى التقدمية والديمقراطية الحقيقية.لقد رأينا كيف أن الخاسر في الانتخابات الأخيرة في مصر وقبلها الأردن والمغرب والكويت والعراق ليست جماعات الإسلام السياسي فقط بل كل القوى الديمقراطية الحقيقية ومجمل المسار الديمقراطي.
حالة الاستقطاب ما بين أحزاب السلطة وجماعات الإسلام السياسي ،وتراجع شعبية وفاعلية الأحزاب السياسية بشكل عام عززا من قوة حضور المجتمع المدني وقطاع الشباب غير المسيسين ،هذه القوى الصاعدة باتت أقوى من الأحزاب من حيث قدرتها على تحريك الشارع وهذا ما لمسناه في الثورة التونسية وفي الثورة المصرية أيضا.

يتبع

ليست هناك تعليقات: