الخميس، 9 أبريل 2009

من دفاتر الأيام


الرد على مقال الزاوي
نشرت الشروق مقالا يوم الخميس 02/04/2009 ضمن ما تنشره في هذا اليوم من كل أسبوع لمجموعة من الكتاب, وقد صار الدكتور منهم بعد خروجه من المكتبة الوطنية, وعنوان المقال المعني هو: " المثقف الجزائري بين السلوك الرعوي والجبن والفردية, ويبدو أن هذا النص يندرج في مشروع " الكتاب الأبيض " الذي يخصصه صاحب المقال للثقافة في الجزائر, وربما أنه يقصد نقد الثقافة, وهو أمر إيجابي, غير أن ما نقرأه في هذا المقال ليس نقدا بل انتقادا أو إن شئنا الدقة فهو من قبيل الشتم, ولمن للعدم؟ وللمعرب؟ أقصد بالعدم المثقف, بمعنى النخبة, وهذه لا وجود لها في الجزائر, ربما هناك لدينا عمالقة ومشاهير في هذا النوع أو ذاك من الإبداع, لكنهم أفراد, وهم بهذه الصفة جديرين بكل احترام, لكنهم لا يكونون أبدا ظاهرة المثقف بمعنى النخبة التي هي وحدها متى تشكلت الكفيلة بفرض الرمزية التي يتحدث عنها الدكتور بما يعنيه ذلك من نفوذها السياسي النوعي على اعتبار أنها جماعة ضغط, ينبغي أن تكون لها الريادة في تحالف جماعات الضغط الضامنة الوحيدة لقدسية المصلحة العليا للوطن, لماذا تنعدم النخبة المثقفة في بلادنا؟ هذا سؤال كبير له تشعباته التاريخية والاجتماعية والسياسية, وليست هذه هي مناسبة الخوض فيه. لكن ما هو من صميم ما نحن بصدده في عنوان المقال يفرض التساؤل عن معنى السلوك الرعوي, هل المقصود الرعاة؟ أو البداوة والفطرية والتخلف؟ فإذا كان ذلك كذلك, فكيف يمكن اعتبار الموصوف مثقفا؟ وإذا كان الكاتب يقصد شيئا آخر فقد كان عليه أن يوضحه ما دام قد وضعه من بين مفردات عنوان المقال. ثم الجبن, وهي المفردة الثانية بعد الرعوية, غير أن المقال لا يفرد لهذه الصفة مساحة تتضح فيها وتتبلور, اللهم إلا إذا كان مثال مالك بن نبي هو المجسد للنقيض أي الشجاعة, من باب وبضدهاتتضح الأشياء, لكن ما هي الشجاعة المطلوبة من المثقف الفرد, ما دام هو الوجود الوحيد الافتراضي لظاهرة المثقف في بلدنا؟ هل المراد هو الشجاعة السياسية؟ وعليه فهل يمكن للفرد أن يوجد في فضاء السياسة, والحال أنها لا تمارس إلا في جماعة؟ والجماعة التي بإمكان المثقف أن ينشط ضمنها سياسيا ويحافظ على صفة المثقف هي النخبة المثقفة, لكنها منعدمة والنتيجة المنطقية هي أن المثقف إن وجدمخير بين ممارسة السياسة خارج محيطه الطبيعي الصميم, أو الانتحار السياسي كما فعل مالك بن نبي بمعنى من المعاني, والأجدر بصاحب المقال أن يعطينا المثل بسلوكه المتحضر الشجاع الجماعي, وإلا وقع في الانتقاد الذاتي أو السب وبين ممارسة النقد وليس الانتقاد والشتم مسافة لاتقطع. إن الأفراد الذين يدعون الثقافة في بلدنا أو " المخربشين", حسب تعبير الفقيد مولود قاسم مصابون بالنرجسية, وكل من يحاول منهم نقد الوضع الثقافي المأساوي في هذا الوطن يبدأ بإخراج نفسه من الموضوع بتبرئة ساحته, ثم يثني بكيل التهم جزافا لغيره من الأحياء والأموات, وهذه ممارسات يمكن أن تصنف في أي خانة لكنها ليست أبدا من طبيعة النقد الذي يعني التشخيص ووصف العلاج. وحتى لا أقع في نفس المغبة أقول إن انعدام النخبة المثقفة في الجزائر سببه الرئيسي هو الاستعمار الفرنسي الأسود, الذي رحل تاركا وراءه نسبة من الأمية تقدر بـ 95% في أحسن الأحوال, وهو الواقع الذي كرسته نوعيا القوة الثالثة التي نصبها الاستعمار وحصنها في الإدارة ليرحل مطمئنا, وأظن أن من بين ثمارها المرة, هو ظهور هؤلاء الذين يتطاولون على العربية والمعرب, وفي هذا المضمار, وبعد أن أزف إلينا السيد الزاوي في مقال سابق بشرى قبر العربية مبديا حزنه العميق على موتها, ها هو هنا يقول عن المعرب: " إن ما نلاحظه اليوم على مستوى بعض ما يقدم في الإعلام الجزائري من حصص تلفزيونية في الثقافة والأدب والفنون يعطي صورة عن هذه الجزائر الثقافية المكونة من شعبين, شعب بمرجعيات غربية وبسلوكات معينة وبإرادة حازمة وحاسمة, وشعب آخر معرب يئيس ومنكسر ومكسور وذليل وبمرجعيات تنم عن هزيمة وانهزامية... ومادة بناء الملاحظة ترتكز على ما يقدم, مثلا, في بعض الحصص الثقافية أو الأدبية في شاشتنا العمومية بين ما يقدم في القناة بالعربية والقناة بالفرنسية, تقف أنت المتمعن في الظاهرة وكأنك في بلدين متباعدين في الحضارة والسلوك... تشعر وأنت تتابع وكأن بلادنا الثقافية تعيش زمنين لا تفصل بينهما اللغة المختلفة وفقط بل يفصل بينهما الفارق الحضاري الشاسع والذي يقاس بالقرون ". السؤال بعد هذا الكلام الخطير هو: هل يعتبر السيد الزاوي نفسه معربا أم مفرنسا؟ وكيف يتعايش ذاتيا إن كان مزدوج اللغة, وهو تبعا لذلك مزدوج الحضارة, ومزدوج الانتماء الشعبي, ومزدوج العصر إلخ... وكيف هو حاله مع هذه الانشطارية الممزقة؟ والغريب أن صاحبنا لم يقف عند حدود وجود لغتين في الجزائر عربية متخلفة ماتت يستعملها مساكين بؤساء ممتهنين, ولغة فرنسية يستعملها سادة أحرار في موقع ممتاز من الحضارة المعاصرة والتقدم الهائل, يتجاوز السيد هذا إلى القول بوجود شعبين أحدهما من الصنف الأول المغبون الحقير المحتقر, والآخر من النوع الثاني المحظوظ العزيز المزدهر!!! إن الحقيقة سواء جهلها السيد الزاوي أو تجاهلها هي أنه لا وجود في الجزائر إلا لشعب واحد عربي أمازيغي مسلم, ولا وجود لدى هذا الشعب إلا للغتين هما العربية والأمازيغية, أما إذا شئنا استعارة لغة من أجل التنمية والعصرنة ودخول عالم العلم والتكنولوجيا فعلينا بالإنكليزية كما تفعل فرنسا وسائر البلدان المتقدمة الأخرى, وليس للمثقف بطبيعة الحال أن يعادي أية لغة حتى لو كانت هي الفرنسية بالنسبة للإنسان الجزائري الصميم, فلهذه اللغة ما تصلح له, لكنها بالتأكيد ليست لغة العصرنة بالمعنى العلمي والتكنولوجي وهو المعنى الذي نحن في أمس الحاجة إليه, وما عدا ذلك فهي لا تصلح إلا لممارسة تقليد المغلوب للغالب كما هي القاعدة الخلدونية الشهيرة, وهيهات أن تنجح فلول الاستعمار في هذا البلد الأصيل فيما خاب فيه الاستعمار ذاته, وما هي إلا سحابة ما بعيد الاستعمار سرعان ما تنجلي, ويعود الصفاء لهذه الربوع وتستعيد عافيتها الحضارية العربية الإسلامية الأمازيغية الأصيلة المعاصرة, أحب من أحب وكره من كره, وإذا كان لا بد من العولمة التي ترفضها فرنسا في جانبها اللغوي والثقافي, أو لنقل جانب الهوية, فلا مناص من الإنكليزية, وذاك ما تقف دونه فرنسا وطابورها الخامس بالجزائر, وتلك جولة أخرى من التحرر سيخوضها الشعب الجزائري العربي الأمازيغي المسلم حتما, إنها حقا معركة حياة أو موت, ولا بد من دخول العصر بالاعتماد على الإنكليزية وعلى الترجمة منها إلى اللغتين العربية والأمازيغية, لأنه لا سبيل لاستيعاب حضارة العصر دون أن تصبح شعبية , ولن تكون كذلك إلا إذا انتشرت بين أفراده جميعا, وهو أمر لا يكون إلا بلغته, أي بالنسبة إلينا بالعربية والأمازيغية فقط لا غير. أما التهجم على المعرب, ولست أنكر قصوره وتقصيره فلا يفسر إلا في هذا السياق, أي معاداة الهوية الوطنية دعما للاحتلال الثقافي إن صح التعبير, لأن الثقافة لا يمكن أن تكون بأي حال من الأحوال احتلالا, بل هو دعم التخلف وعدم السماح باية نهضة لتمديد حالة الوهن والهوان حتى إذا واتت الظروف عاد الاستعمار من جديد لأملاكه القديمة بسهولة ما دامت الضحية ضعيفة عاجزة عن المقاومة, فالمعرب مهما كان تقصيره ضحية لهذا الوضع الغريب الذي تتصف به هذه الفترة العابرة من تاريخنا, لكن الذي لا جدال فيه هو أنه لا أمل في المستقبل ما دامت حالة المعرب هكذا, لسبب بسيط هو أن الشعب الجزائري يرفض أن يكون فرنسيا. قد يكون هناك بيننا مثقفين من طراز رفيع باللغة الفرنسية وهم مصدر ثراء لنا, بشرط أن تكون ثقافتهم بريئة من الإيديولوجية الاستعمارية ومعاداة الهوية الوطنية, ففي هذه الحالة لا يمكن أن يوصفوا بالثقافة فضلا عن تيههم وضياعهم إن هم ساروا وراء حلم إنجاز عصرنة الجزائر وتقدمهاباللغة الفرنسية, فهذا أمر مرفوض لأسباب كثيرة ومتشعبة وعلى الخصوص كونها لا تصلح لهذه المهمة كما سلف الذكر. ونختم هذا الحديث غير الوافي بالموضوع المتشعب بهذه القصة الواقعية: لقد جاء في بداية الثمانينات من القرن الماضي أحد الأتراك كان وقتها مديرا لمعهد الدراسات الشرقية بألمانيا, وقد نسيت إن كان هذا المعهد ألمانيا أو تركيا, وكان سبب حضوره هو طلب الدعم المالي لمعهده, خاصة وأنه كان زميلا وصديقا لبعض الوزراء عندنا آنذاك, جمعتهم أيام الدراسة في الجامعات الفرنسية, وبالمناسبة كان ذلك التركي الزائر يطوف بالمعاهد والكليات الجزائرية محاضرا, وقد كان يعبر عن تذمره الشديد من الظاهرة الإسلامية التي كانت في أوج عنفوانها, مبررا ذلك بأن المسلمين في أوروبا يعانون أشد المعاناة منذ ظهور الخمينية, بعد الثورة الإسلامية الإيرانية, فكان أن قال له مرافقه الرسمي الجامعي الجزائري: مهما كان من أمر الإمام الخميني يا دكتور لا يمكننا أن ننكر كونه عالما. فاغتاظ الرجل الزائر أيما غيظ وأجاب مرافقه بعفوية الغاضب قائلا: " حتى أنت عالم ", ثم تدارك: أقصد أن العلم لا يخفى, فأين هو علم الخميني الذي تتحدث عنه؟ أين هي مؤلفاته ومجلداته الضخمة...إلخ. وقياسا على هذا نسأل ببراءة تامة أين الثقافة والحضارة التي صنعها المفرنسون في الجزائر؟ وهل يخفى القمر؟ إن خسارتنا في هؤلاء لا تعوض, ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ثم كيف لم يرد – أي معرب حسب علمي – على هذا الكلام الخطير؟ إنها حالة التسيب التي آلت إليها الأمور للأسف الشديد, فلم يعد لجرح بميت إيلام. ولله الأمر من قبل ومن بعد.

ليست هناك تعليقات: