السبت، 30 مايو 2009

أسبوعيات الزاوي

أسبوعيات الزاوي

كتب الزاوي هذه المرة في ركنه "أقواس" تحت عنوان: "عودة قوية لشعراء البلاط في العالم العربي"

الشروق – أقلام الخميس/ الخميس 21 مايو 2009 – الموافق لـ 25 جمادى الأولى 1430هـ - العدد 2616- ص 21

كانت البداية بهذه المقولة للعلامة ابن خلدون: "اعلم أن السيف والقلم كلاهما آلة لصاحب الدولة يستعين بهما على أمره". ثم يذكر الدكتور أن ما يقدمه هنا هو خلاصة لملاحظاته، لمدة عشرية كاملة أو يزيد، وأول ما يثير انتباهه – كما قال- هو العودة "الفاضحة والمفضوحة لعودة شعر التكسب"، وهي عودة أساسها خوف الأنظمة من التغيير وريح الحرية، وقيامها بعملية تدجين كبيرة للمثقف النقدي، بهدف فصل الشعر عن الثقافة الجادة، في هذا السياق يوجد تهافت أشباه الشعراء على الحضور الإعلامي المدسوس والمتمسح أكثر على طاعة السلاطين:"من الشعراء المخصيين أو ما أسميهم بـ (حراس السرير)". كل هذا يتم تحت شعارات: نهاية الإيديولوجية، ونهاية اليسار العربي، وقيام الحرية والتعددية، بخطاب تبريري يزعم التقدم والحرية، ونهاية الثورات، والليبرالية والدفاع عن العدمية، في ظل هذا الوضع كله يتعاظم دور شعراء التكسب. ثم يذكر صاحب المقال أن مرتبة الشعراء في المخيال العربي، هي من مرتبة الأنبياء، بدليل اتهام الأنبياء بالشعر. ثم يقول:" نحن للأسف أمة شعر البلاط والتكسب بامتياز"، "أما كان أكبر شاعر العربية وهو أبو الطيب المتنبي معروفا بهذا السلوك المشين"، "هو ما جعل الدكتور طه حسين يضجر من تصرفاته فيصفه بالنصاب". "أرى أن الشاعر العربي المعاصر قد تنازل عن فحولته العظيمة"، ثم يستعرض الدكتور مقاطع من شعر الفحولة والمواقف والدفاع عن الحرية والجمالية، منطلقا من "أمل دنقل"، ومثنيا بـ "عبد الله البردوني" ومثلثا بمظفر النواب، ثم "الأخضر بن يوسف" و " سعدي يوسف"، وبعد دعوة شعراء اليوم إلى استلهام هذه النماذج الثائرة من الشعر العربي، يقول: "ما أحوج شعرنا إلى الذاكرة، وما أحوج شاعرنا اليوم إلى لقفة وعي ونهضة ضمير. باستثناءات قليلة تؤكد القاعدة، لم يذهب الشعر العربي الجديد إلى الأمام، إني أراه يزحف نحو الخلف والخوف وأعتاب البلاطات". ثم يضيف: "أيها الشعراء النائمون في العسل السلطاني حتى وإن سلمنا معكم بأن المدح كان فنا من فنون الكلام عند القدامى فإني أقول: اليوم لا مبرر لوجوده، فوجوده مرفوض جملة وتفصيلا". "أمام هذه الردة في ثقافة الممانعة وطغيان ثقافة الطاعة هجر الناس الشعر". "هناك فخاخ تنصب للشعر وأخرى تنصب للشعراء، فخاخ المال وفخاخ السلطة وفخاخ الشهرة وفخاخ الاستهلاك وفخاخ الصورة الإعلامية". هناك سياسة ترذيل الشعر"،"وعمليات متقنة لإخصاء الشعراء". "إن فن التكميم اليوم هو المال". "والفخ الآخر هو الإعلام، هناك قنوات تلفزيونية ملكية السلطان، جميع أشكال السلاطين، تحتفل بأنصاف الشعراء، فتجعل منهم أمراء الشعر وأمراء القوافي، ولكن هؤلاء الأمراء هم في نهاية المطاف ملكية خاصة للسلطان، قطيع من قطعانه". يقول الزاوي: " والجوائز التي تقدم في الشعر وفي فنون أخرى كالرواية التي يراد محاصرتها وتكميم الروائيين العرب من خلال إغراقهم في المال وتحويل جيوبهم إلى آبار صغيرة، هذه الجوائز هي الأخرى فخ من فخاخ السلطان العربي". ويختم الدكتور مقاله هكذا: "أراقب مشهد الشعر المأزوم ومثله مشهد قوافل أشباه الشعراء الراكضين إلى الموائد والزردات وأقول: هذا زمن الردة الثقافية. هذا زمن عودة أخلاق التكسب وثفافة الطاعة. هذا الزمن العربي هو زمن الشعراء حراس السرير. هل تعرفون ما معنى حراس السرير؟؟؟".

المأخذ الأكبر على هذا المقال النقدي – فيما يبدو – هو أنه لم يقدم أي نموذج للموضوع، فلا وجود لمقطع واحد من قصيدة ولا اسم واحد لما يسميه شعراء التكسب المعاصرين، وشعراء البلاط، وما إلى ذلك من الأوصاف والتسميات، وإذن فإن النقد كله يتحول إلى مصادرة على المطلوب، إذ أن الناقد هنا يتحدث عن ظاهرة أدبية معاصرة، دون أن يضع نموذجا منها على محك البحث المباشر، والتحليل الفاحص ثم استخراج النتائج المتنوعة شكلا ومضمونا، مما يؤشر على أن المقالة كلها هي مجرد انطباعات وارتجال، لا يمكن بأي حال من الأحوال أن ترتفع إلى مستوى النقد الأدبي والفكري الموضوعي، لقد راح الكاتب يستعرض مقاطع من أشعار أخرى يعتبرها ممتازة، وهذا مهم من حيث المقارنة الناقدة، لكنه لم يستعرض أي شيء مما هو محل نقده من الشعر المعاصر، الذي وصفه بالضعف فنا وبالتدني والسقوط موضوعا، مثل هذه الأحكام لا يمكن اعتبارها من النقد ما لم تكن مستخرجة من النصوص مباشرة، مع التحليل المعمق لتبيان صحة هذه الأحكام وتبريرها بالتعامل مع عباراتها وأساليبها وأشكالها التعبيرية ومضامينها الكامنة والمحمولة في عباراتها ومقاطعها، كان بودنا أن نستفيد من نقد مؤسس وقائم على قواعد علمية ما أحوجنا إلى الإلمام بها، أما أن يتصرف من يعتبر نفسه أحد أعلام الأدب المعاصر بهذه الطريقة التي توزع الاتهامات دون برهان أي برهان فأمر لا يمكن قبوله ولا تبريره، ويبقى أن نتساءل لماذا ولمن توجه هذه الكتابة؟ إنها لا تفيد الشاعر ولا الأديب ولا القارئ بأي شيء يضيفه إلى رصيده المعرفي أو الفني، فمثل هذه الكتابة بالتالي لا تختلف كثيرا عما ينتقده الأستاذ من شعر التكسب المعاصر، والغالب على الظن أن الجريدة التي تستثمر في اسم أديب ربما له من الشهرة ما يكفي لجلب العديد من القراء الجدد، أظن أنها من هذا المنطلق لا تبخل بدفع المقابل المالي المناسب، فإذا كانت البضاعة المقدمة لا تتناسب مع شهرة صاحبها، ولا مع هدف الجريدة المادي، فإن المسألة لا تعدو أن تكون نوعا من التكسب الإعلامي، ولا أظنها في ذات الوقت في صالح أحد، انطلاقا من صاحبها ثم الجريدة وأخيرا القارئ بالمعنى الواسع للكلمة. وما دام الأمر هكذا، فلا داعي لتتبع العبارات التي استشهدنا بها من مقال الدكتور للتدليل على ما ذهبنا إليه، فما على القارئ الكريم إلا أن يعود إلى الملخص السابق للمقال ليدرك بنفسه مدى الارتجال وعدم الجدوى في هذا الذي قدمه لنا الدكتور، ولعل أهم ما قدمه صاحبنا هو محاولة إلغائه لصفة الفحولة عن المتنبي كأكبر شاعر عربي، حيث استند إلى حكم لطه حسين في الموضوع، غير أنه لم يحلله، ولا يكفي أن يكون ذلك الحكم منسوبا لطه حسين أو غيره من المشاهير حتى يكون مقبولا وحاسما، فلا هذا ولا صاحب المقال بقادران على اقتلاع شعرة واحدة من رأس المتنبي، ذلك الصرح الأدبي والشعري الكبير، الذي لا يمكن أن يهتز لأي ريح مهما كانت عاتية، فكيف بمداعبات النسيم. ثم إن تهمة التكسب لا يمكن أن تكون واحدة بالنسبة إلى عصر المتنبي وعصرنا الحالي، فالشاعر في زمن المتنبي كان بمثابة الصحافي اليوم، والشعر مثل الصحافة، ومن هنا فهناك الصحافة الموالية للسلطة بالضرورة، ولم يكن المتنبي كذلك، وإنما مدح هذا أو ذاك من السلاطين لأغراض معينة ومبررة حتى ولو كان ذلك التبرير بالمصلحة الشخصية، ولا أظن أن هذه مرفوضة إلى هذا الحد الذي تجعل الدكتور يعتبر مع طه حسين المتنبي نصابا كبيرا، فالمتنبي والشاعر والأديب بشر في نهاية المطاف، ولهم مصالحهم الشخصية المبررة بهذا الاعتبار، ما لم تتجاوز الخطوط الحمراء التي تجعلها مضرة بالمصلحة العامة أي كانت، أما أن تكون تهمة مطلقة، فهو أمر غير طبيعي ولا يمكن قبوله أبدا، وعلى أي حال فإن مثل هذا الأمر لا يخلو منه سلوك بشر عادي وطبيعي، وهو مشروع تماما، حتى ولو كان قابلا للتصنيف ضمن شعر التكسب، إذ أن الناس كلها تتكسب بأعمالها، فكيف يستنكر هذا على الشاعر وحده؟ وما هو مصدر رزق الشاعر إن كان الشعر هو صناعته وبضاعته الوحيدة؟ هذا لا يعني أن التكسب بالمعنى المضر برقي الشعر والأدب، أو الإسفاف الفكري، أو الإضرار بالمصلحة العامة مقبول، لا أبدا، أما أن يمارسه الشاعر بالقدر الذي لا يمس بأي من القيم الأدبية والفكرية والإنسانية والوطنية، وفي سبيل جلب مورد ضروري للرزق، فليس في ذلك أي حرج، فهو تماما مثل سعي الروائي للنشر في دور أجنبية من أجل ضمان التوزيع الأكبر وجني المقابل بالعملة الصعبة التي تصرف بأضعاف مضاعفة من العملة الوطنية، فهو حق لا جدال فيه لصاحب الرواية، وإن لم يفعل يكون مفرطا في حقه الطبيعي مجانا، فلماذا لا نوجه النقد اللاذع لمثل هذا التصرف وننعت الشاعر بأرذل الأوصاف، لأنه قبل الاستفادة من إنتاجه الأدبي ماديا؟ حتى ولو كان هذا الإنتاج مدحا، ولا يكفي أبدا أن ينزع الدكتور مشروعية فن المدح في عصرنا هذا بجرة قلم، ويحيل الشعراء بذلك على البطالة والتسول، نعم إن المدح لمن لا يستحق، فيه زيف لا مراء فيه، غير أن كل شيء نسبي، وليس المدح هو الفن الوحيد الذي يمارسه الشاعر، فهو يقوم بالمدح وبغير المدح، من هجاء ووصف وعاطفة وتصوف وغيرها، وحتى في حالة ثبات تهمة التكسب على شاعر ما، فلماذا لا نحتسب له إبداعه في جوانب أخرى أو فنون غير فن المدح، ونحكم عليه فقط من هذا الباب، باب المدح والتكسب، أي مدح السلطان على وجه الخصوص؟ لست هنا أدافع عن شاعر مفترض ينحصر نشاطه في التكسب بالمعنى السلبي، كمدح سلطان جائر أو فاشل من أجل مقابل مالي، لا، ولكن الدكتور لم يقدم لنا أي نموذج من هذه الظاهرة التي ينتقدها بشدة، وهذا هو المأخذ الأساسي على مقاله، الذي يندرج في إطار الارتجال والانطباعية العابرة، وهو ما لا يمكن قبوله ممن يتصدى للنقد الجاد البناء، وقد كنا نأمل في أن يطل علينا الدكتور أسبوعيا بما يفيد القارئ بمختلف درجاته وفئاته فكريا وفنيا، لكنه – للأسف الشديد- لا يفعل ذلك منذ أن شرع في هذه الأسبوعيات على صفحات الشروق كل خميس، غير أننا لا زلنا نأمل، فلولا الأمل لمات الإنسان.

ليست هناك تعليقات: