الجمعة، 13 مارس 2009

ملتقى المقروئية

الملتقى الأول للمقروئية في الجزائر

تلقيت دعوة لحضور الملتقى الأول للمقروئية الذي نظمته الرابطة الجزائرية للفكر والثقافة يومي 10 و 11 مارس بقاعة ابن زيدون برياض الفتح – الجزائر العاصمة
لم أكن أسمع عن هذه الرابطة من قبل, مما يؤشر على نقص إعلامي, وبعد أن تلقيت الدعوة لالتقائي بأحد الأصدقاء ينشط بها مصادفة, بحثت عن الملتقى في الإنترنيت, فوجدت كلمة عنه من نشر القناة الأولى للإذاعة الجزائرية على موقعها, الذي يطلب تعليقات على الموضوع, فلبيت الطلب, وفي الغد وجدت ما كتبت منشورا تحت عنوان " التعليق الوحيد", فقلت هذه فعلا أزمة مقروئية, كيف أكون المعلق الوحيد على مثل هذا الموضوع الهام؟ بل ربما أنني الزائر الوحيد لموقع الإذاعة؟ جاء موعد الملتقى فذهبت وفي نفسي شيء من رواسب زيارتي لموقع الإذاعة وتعليقي الوحيد على مقاله المخصص للملتقى, هل المسألة تتعلق بمستوى ما يقدم في الإذاعة وفي موقعها؟ أم أن الأمر يندرج في أزمة المقروئية في البلد, أم الأمران معا؟ وما ذا عسى هذا الملتقى أن يقدم في هذا المجال الخطير؟
افتتح الملتقى, وقدمت في الصبيحة الأولى مداخلات لشخصيات عامة مدعوة, وكانت بطبيعة الحال مداخلات مرتجلة, تعتمد على الثقافة العامة لأصحابها, وعلى محتويات ليست بالجديدة, فهي معروفة لدى من تعود على سماع هؤلاء في مثل هذه المناسبة, أو على قراءة ما يكتبون في الصحف, وكدت أن أنسحب لهذا السبب من الملتقى الذي ظننت أنه سوف يستمر على هذا النحو القليل الفائدة, رغم أن العناوين المقررة في جدول الأعمال تبدو ذات أهمية كبيرة. لكنني في النهاية رجحت الاستمرار في الحضور, وبدأت المفاجآت السارة تتكشف تدريجيا, عندما بدأت المحاضرات والمداخلات التي يستحق الكثير منها وصف العلمية, والتي لم أكن أنتظرها أبدا, ذلك لأن الذين قدموها هم أساتذة جامعيون شباب في الغالب, والجامعة كما تركتها منذ قرابة العقد من الزمن, وخاصة منها جامعة الجزائر, وبالتحديد معاهد أو كليات الآداب والعلوم الإنسانية, كانت خاوية على عروشها, ولا ينتظر منها القليل فما بالك بالكثير. ولعل أحد المعقبين بعد مداخلات الصبيحة الأولى يصلح لأن يكون مثالا واضحا لهذا العقم الجامعي, فقد استغل المناسبة لينتقد الإصلاح التربوي الحالي من منطلق أن المدرسة الأساسية كانت قد جعلت المطالعة مادة من بين المواد المقررة, ولكونه يعتبر نفسه زعيم هذه المدرسة المنتهية صلاحيتها والملغاة بالإصلاح الذي ينتقده, فإنه يحكم مسبقا على الإصلاح الحالي بالفشل لأنه تجاوز مدرسته وألغاها, وليس لأسباب موضوعية لا زال الوقت مبكرا لرصدها, حتى لو افترضنا جدلا أن المدرسة الأساسية أصلح من مدرسة الإصلاح الجاري تطبيقه حاليا, ثم كيف تكون هناك أزمة مقروئية حادة, وقد قرر صاحبنا مادة المطالعة رسميا في برنامج المدرسة الأساسية التي يعتبر نفسه مبدعها؟ فماذا يمكن أن ننتظر من طرح مماثل ؟
مفاجآت الملتقى السارة هي في المقام الأول تركيبته البشرية الجامعية الشابة في الغالب للمحاضرين, ومنهم الكثير من العنصر النسوي, ثم المحتوى العلمي الذي اشتملت عليه محاضراتهم, خاصة منها تلك التي قدمت إحصائيات عن المقروئية, وبقطع النظر عن كون تلك الإحصائيات متفاوتة فيما بينها من حيث الوضوح, وقد تحتاج في عمومها إلى مزيد من الدقة والعمق, ودون شك فإن الجهات المختصة والمسئولة معنية أكثر من الرابطة بمتابعة تحديث مثل هذا الجهد العلمي الإحصائي للظاهرة واستثماره ميدانيا في التطبيق والرصد المستمر, ويبقى الفضل لهذه الجمعية في إثارة الموضوع والتصدي له بالدراسة العلمية الإحصائية الأولية على الأقل, وأملنا هو ألا تنسى الرابطة الواعدة هذا الموضوع الهام, وهي تتنقل بين المحاور الكثيرة التي تعنيها كهيئة للفكر والثقافة. لقد استفدنا من الملتقى بمستوى طرحه الرفيع للموضوع, سواء من حيث التحليل والمقارنة, أو من حيث التشخيص العلمي الإحصائي, بحيث إننا تعرفنا على نسب للمقروئية في مستويات مختلفة من الطفولة إلى الجامعة وميادين الشغل والجمهور عامة, وعرفنا ولو بصورة قد تحتاج إلى تدقيق أكثر وإلى المتابعة والتحديث باستمرار إلى مكانة الجزائر الضعيفة في المقروئية, وهو مؤشر ثقافي وحضاري خطير, كما وقفنا على ما يدور في مجال الوسائط الإعلامية والنشر والكتاب الإلكتروني, وما إلى ذلك من الميادين المتصلة بالقراءة بأنواعها من الجريدة إلى الكتاب الإلكتروني, واستمعنا إلى الاقتراحات الهامة, ومحورها الرئيسي بطبيعة الحال العناية بالكتاب وجعله في متناول الجميع من حيث السعر، والاهتمام بالمكتبات وتطويرها كما وكيفا, وتحفيز التأليف والنشر والتوزيع والاستيراد, وغير هذا وذاك من الاقتراحات الهامة التي صارت توصيات في منتهى المطاف, والتي من بينها دعوة الأطراف التنفيذية المعنية إلى تجسيد توصيات الملتقى ذات الأهمية القصوى, لقد نجح الملتقى في تقديم تشخيص علمي إحصائي أولي للأزمة أو لظاهرة المقروئية السلبية, ودون ريب فإن التشخيص هو الخطوة الأولى والأهم في العلاج, أو هو نصف العلاج كما يقال, ولذلك يعتبر إنجازا هاما.
هذه خلاصة مقتضبة لمجريات ملتقى المقروئية, التي تستحق الرابطة الجزائرية للفكر والثقافة الشكر عليه كل الشكر, وهو مساهمة ثقافية نوعية متميزة, نرجو لها الاستمرار والازدهار, والاقتداء بها من سائر الجمعيات ذات الطابع الثقافي, فشكرا جزيلا.
وتبقي في النهاية ملاحظة لا بد منها, ويتعلق الأمر خاصة بالتعقيبات التي كان الكثير منها يطلب من الرابطة ما هو من مسئوليات الدولة, أو الانتقادات التي تعبر عن دوافع ذاتية لا جدوى منها, وكان بودي أن ألمس وضوح المهمة والاختصاص من المنظمين خاصة, حيث إن التموقع الواضح الصحيح هو القاعدة الصلبة والمنطلق الموفق لأي نشاط, فالرابطة جمعية ثقافية تنتمي إلى ما يعرف بالمجتمع المدني, ومن المعروف مدى أهمية هذا المجتمع المدني في التطوير والترقية والتسيير السليم للمجتمع, ولعل ضعفه النوعي في بلادنا أضعف من المقروئية المجاورة لمرتبة الصفر, مما يترجم عن الوضع السلبي الخطير السائد, فمن المعروف أن هذه الجمعيات المعدة بالآلاف هي عالة على الوطن مثل الأحزاب السياسية التي تستهلك ولا تنتج, والتي عوض أن تستمد أسباب وجودها من جمهورها أو مناضليها, تحاول بكل ما أوتيت من قوة أن تتقرب من السلطة بهدف مادي لا يمثل سوى عبئا إضافيا على النفقات العامة, ومن ثم فعوض أن تكون جزءا من الحل تصير طرفا في المشكلة, وهو أمر في غاية السلبية, ومن هذه الناحية فالرابطة تعبر عن أمل واضح في الدور البالغ الأهمية الذي يمكن أن تقوم به هيئات المجتمع المدني والتي ينبغي عليها أن تقوم به. إن كارثة الكوارث في المجال الثقافي هو انعدام النخبة المثقفة بالرغم من الوجود الواسع للمثقفين في البلاد, بمعنى أن هذه غائبة كهياكل, وهي لا يمكن أن توجد كنخبة إلا بتلك الهياكل, والتي يمكن للرابطة هذه أن تكون لبنة مباركة فيها, فلست أعرف شخصيا وجود أي هيئة تمثل بالفعل عنصرا مساهما في بناء النخبة المأمولة مثل هذه الرابطة, كما عبرت عن ذلك بوضوح بالملتقى الذي حضرناه في نهاية هذا الأسبوع. إن مهمة النخبة المثقفة خطيرة, وغيابها كارثة حقيقية, إذ لا أمل في النهوض والتطور لبلد يفتقد لمثل هذه النخبة, وهذه مسئولية الجميع وفي المقام الأول المثقفين الذين عليهم أن يتكتلوا مهما كانت التكاليف والعراقيل والتحديات, إنه جهاد لا يعلوه جهاد, ومن يتصدى لمهمة التثقيف والتحضير والتطوير إذا لم يفعل المثقف ذلك؟ إن التوصيات القيمة التي تصدر عن جمعية مثل الرابطة صاحبة هذا الملتقى, لا يمكن أن تكون ملزمة أو تجد طريقها إلى التنفيذ المؤكد, ما لم تكن الرابطة ضمن كتلة النخبة المثقفة التي لا زلنا ننتظر تشكلها الميمون الذي سيكون – إن حدث – ثورة حقيقية في المجتمع, ذلك أنه بطبعه ينحو إلى البناء والتحديث والتطوير انطلاقا من طبيعة المجتمع وحقيقة هويته ووصولا إلى المعاصرة المحصنة بكل جدارة واستحقاق, ثم إن مثل هذه النخبة وفي سياق المجتمع المدني السليم وإطاره تكون قوة اقتراح وضغط لا يمكن لأي كان أن يتجاهلهما, وقد قدمت الرابطة في ملتقاها نموذجا للاقتراحات القوية, التي يصعب على المسير تجاهلها إن هي وجدت الاهتمام الإعلامي الكافي والنشر الواسع, هذا النموذج يتمثل في الفضح العلمي عن طريق الإحصاء والتحليل لعينة من الواقع الثقافي المزري وهي المقروئية مفتاح كل ثقافة محتملة, إن الاقتراح عندما يصل مرتبة العلم, يكتسب قوة كبيرة تكاد تكون ملزمة, غير أن هذا الإلزام لا يحدث دون تخلف إلا إذا أصبح قوة ضغط يستحيل تجاهلها, وهو لا يكون كذلك إلا إذا صدر عن إحدى النخب, ويكون أكثر إلزاما إذا تبنته الكثير من النخب وغيرها من مكونات المجتمع المدني الحقيقي, وهو الفراغ الرهيب الذي يعطل كل شيء ولا ينتظر بدونه أي شيء هام ودائم, ومن هنا وجب على كل فئات المجتمع أن تتكتل في هيئات مدنية تمثلها حق التمثيل, وعلى المثقفين خاصة أن يناضلوا بكل ما أوتوا من قوة لتشكيل نخبتهم, التي هي الغائب الأكبر والأخطر في البلد, وها هي رابطة الفكر والثقافة قائمة كمثال لعنصر من هذا البناء الشامخ الذي نحلم بتشييده, والذي به يحيا كل شيء وبغيابه يموت كل شيء, وعلى الله قصد السبيل.

ليست هناك تعليقات: