الأحد، 23 أغسطس 2009

النت

النت يهز عرش القبيلة


1_ انهيار الحدود


تعاني الدول بل السلطات في البلدان المتخلفة من اختراق النت للجدران المنيعة التي كانت تسيج بها حدود الأوطان لتضع من خلفها شعوبا كاملة في سجن كبير هو أوطان تلك الشعوب ذاتها, وتصوروا أي مأساة فاجعة هي عندما يتحول الوطن إلى سجن كبير لأبناء شعبه, وعندما يتحول المواطن بفعل عذاب السجن إلى معاد لوطنه, عندما يكون قد تجاوز عتبة الألم, ولم يبق لديه من الاعتبارات ما يمنعه من أن يرتكب أية جريمة فظيعة في حق وطنه, الذي فقد بفعل التعسف والاستبداد ماهية الوطن وتحول إلى معتقل كبير, وهل يلام من يكره السجن والمعتقل؟ ويصبح عدوا لدودا لذلك السجن الذي يفترض فيه أنه وطن أو ربما كان كذلك يوما؟ أما الوطن السجن فهو شيء ممقوت يكاد يكون حبه مستحيلا على مواطنيه ضحايا الاستبداد والتعسف. ولكون القبيلة هي المؤسسة العتيدة أو النواة الصلبة لتلك السلطات, فإن التغيير يصبح ميئوسا منه, كون أساس القبيلة متينا غير قابل – فيما يبدو – للتغير, أو على الأقل التغير السريع المطلوب لإحداث النقلة الحضارية والحداثية والتطورية, أساس القبيلة سكوني معادي للحراك, ومن ثم لا أمل في التغيير في البلدان التي تحكمها تحالفات قبلية أو شبه قبلية من عصب المصالح المتحالفة أيضا مع المكونات القبلية للسلطة. ومعنى هذا أن أي تغير مأمول إنما ينتظر من الخارج, وهو تغير مشوب بالمحاذير كون الخارج إنما يبحث عن مصالحه, ولذلك يحدث التغيير لتسهيل مرور تلك المصالح بأقل تكلفة ممكنة. لكن يحدث أن التطورات العلمية والتكنولوجية التي تجري في الخارج تقدم خدمات غير مقصودة لبلدان الجنوب، مثل تحرير النت لأهل الجنوب من سطوة الغلق في الجوانب الإعلامية والفكرية والثقافية والعاطفية, أي في كل ما لا يعبر على الحدود العتيدة ويسلك طريق الفضاء الحر الآمن, وهذه ضربة قاسية لأساس القبيلة الراسخ. لم تعد تحتكر المعلومة ولا هي قادرة على منع وصول الأفكار المتنوعة ولا التطورات المعرفية والثقافية إلى مواطنيها, نعم إن الجانب المادي لا زال محتكرا ومراقبا جدا في بوابات الحدود, لكنه بالرغم من ذلك لا يسلم من التأثر, للتلازم الحتمي بين الجوانب المادية والمعنوية واستحالة فصلها عن بعضها. الذي حدث هو أن الفتح التكنولوجي العملاق قد أطاح بأسوار الحدود وصار المواطنون يعرفون من المواقع الإلكترونية خارج البلاد وداخلها ما يحصل في العالم وفي بلدهم عن طريق تلك المواقع والرسائل وغيرها من أشكال الاتصال التي يعرفها النت, لم تعد المعلومة السياسية وغيرها محتكرة تعرض منها السلطة القائمة ما تشاء وتخفي ما تريد, وأصبحت الطابوهات السياسية والدينية والجنسية ذات الخطورة العالية والمنع الشديد منتشرة على نطاق واسع, لا يمكن ستر الاستبداد ولا التطرف والخرافة ولا ما يتعلق بالجنس من معلومات وثقافة علمية مفيدة, أو حتى تلك الممارسات الخليعة والإباحية بل والتجارية, التي تنشرها مواقع عديدة في البلدان الغربية وغيرها, من أجل فوائد ومداخل مالية كبيرة, لأنها تصادف الإقبال الكبير. وهنا تجدر الإشارة إلى أن النت مثل غيره من الوسائط الإعلامية الفضائية بل والإبداعات التكنولوجية عموما هي محايدة وسلاح ذو حدين, والذي يعطيها الطابع المفيد أو الضار هو المستعمل لها, بمعنى أن الحكم بالإيجابية أو السلبية وبالخير أو الشر على الاستعمالات التكنولوجية, ينصرف إلى الشخص المستعمل وليس إلى الوسيلة أو الواسطة التكنولوجية, فهي إيجابية تماما ودائما, حتى ولو كانت هي القنبلة النووية, فوجودها يمكن استعماله للتخويف والترهيب من الحروب وبالتالي منع حدوثها نهائيا, إلا إذا أراد مالكها القيام بالشر, كما فعلت أمريكا في اليابان أثناء الحرب الكونية الثانية, وفي هذه الحالة فإن المسؤولية إنما تقع على عاتق الإنسان المستعمل, وليس على الواسطة التكنولوجية المحايدة, والإنسان وحده هو الذي يوجهها لأغراض إيجابية وخيرة أو العكس, عندما يستعملها لغايات سلبية وشريرة, خاصة عندما يمس ضرها الإنسان ذاته. الذي يعنينا هنا هو انهيار الحدود أمام المعلومة والفكرة والرأي بكل أنواعها, ومنها تلك المتعلقة بالطابوهات والموضوعات المتعلقة بها ذات الدرجة العالية من المنع والاحتكار لدى السلطات ذات الطبيعة القبلية, وتصوروا أن المرأة التي كانت ولا زالت سجينة وراء أسوار منيعة لا تسمع ولا ترى إلا ما يسمح به سجانها العنيف المستبد, صارت تتجول عبر النت في مختلف أرجاء القرية العالمية الأصغر من الصغيرة, وصارت تتحدث مع الرجال من كل الأجناس, بل وترى بوضوح كل الممنوعات والموبقات إن هي رغبت وسمحت لنفسها, وتقيم العلاقات النظيفة وغير النظيفة, وتتبادل مع الرجال على نطاق واسع, وربما أحبت وربطت علاقة قد تثمر زواجا سعيدا, لكن هذا موضوع آخر سنتناوله في مقال خاص به. وما يعنينا هنا هو تسجيل فقدان القبيلة العتيدة سيطرتها على المعلومة والفكرة والرأي, بفضل النت الهائل العملاق, وهذه مقدمة هامة لزوال سلطة القبيلة في البلدان التي تعاني من سلطات من هذا النوع الاستبدادي المتعسف, وتلك خطوة عملاقة للتغيير المنشود في بلدان الجنوب, التغيير الذي يسمح لها بدخول العصر بكل جدارة, وممارسة الحداثة والديمقراطية وحقوق الإنسان والكرامة البشرية.

ليست هناك تعليقات: